بنود الموقع
عضوية الموقع

احصائيات الموقع

عدد الزوار   
2500
عدد الصفحات   
56
عدد الزيارات   
813312


جديد الموقع: الفاضحة !!
جديد الموقع: عجبا رأيت !!
جديد الموقع: سَذاجَةُ فراشَة
جديد الموقع: عبرة لأولي النُّهى

الأبحاث العلمية

من أخلاقيات العمل الإسلامي

.
نشر بتاريخ السبت, 13 أيلول/سبتمبر 2014 02:56

إن المستقرئ للآيات القرآنية التشريعية يلحظ بكل وضوح أنها تخاطب جماعة وتُلقي على كاهلها تكاليف، قال تعالى:

·    ]وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ([1])[.

·    ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ[([2]).

·    ]الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ[([3]).

وغيرها من النصوص كثير. نجد أن الأمر خوطبت به الأمة من خلال واو الجماعة في: (فاقطعوا، كونوا، فاجلدوا..)، وقد قامت الأمة الإسلامية بهذا التكليف من خلال الحاكم الذي كان يلقب بالخليفة طوال فترة الحكم الإسلامي التي انتهت بسقوط الخلاقة العثمانية.

 

وإن ما آل إليه حال الأمة من تعطيل الهيكل السياسي من التشريع عن حكم المسلمين بعد سقوط الخلافة ، أدى إلى تشكّل جماعاتٍ إسلامية كثيرة ، كل منها يزعم أنه قام لإعادة سلطان الله لله، من خلال إعادة المسلمين إلى الاحتكام إلى شريعتهم التي أوجب الله عليهم التحاكمَ إليها، وقد انبثقت عن هذه الرايات مناهج وأساليب ومواقف وخططٌ لتحقيق هذا الهدف، مما أدى إلى أن تتحول الأمة إلى جمهور كبير تتنازع في اجتذابه جماعات متفرقة مختلفة ، كل منها يزعم أنه يمتلك خارطة طريق للخروج بالأمة من تيهها المستحكم، وليس غريباً أن تختلف الرُّؤى في الأسلوب الأمثل للخروج من أزمةٍ ما عرفت الأمة الإسلامية لها نظيراً في تاريخها منذ البعثة.

والحقيقة أن العمل من أجل إعلاء كلمة الله، والتحاكم إلى شرعه واجبٌ لا نقاش فيه، وولاية أمر الناس في الشريعة الإسلامية أمرٌ ديني لا نقاش فيه كذلك، ولذلك قال ابن تيمية ـ رحمه الله ـ فإذا كان قد أوجب في أقل الجماعات وأقصر الاجتماعات([4]) أن يولّى أحدهم، كان هذا تنبيهاً على وجوب ذلك فيما هو أكثر من ذلك، ولهذا كانت الولاية لمن يتّخذها دِيناً يتقرب به إلى الله، ويفعل فيها الواجب بحسب الإمكان من أفضل الأعمال الصالحة، حتى قد روى الإمام أحمد في مسنده عن النبي r أنه قال: إن أحب الخلق إلى الله إمامٌ عادل، وأبغض الخلق إلى الله إمام جائر([5]).

وهذا التوجّه ضروري لتحقيق الهدف من خلق الإنسان على هذا الكوكب، إذ إن المتأمل في كتاب الله سبحانه يرى أنه هَدَف من خلق الإنسان إلى أمور منها ثلاثة  جليلة:

1.  عبادة الله سبحانه فقال: ]وَمَا خَلَقْتُ الْجنَّ وَالإِنسَ إِلا لِيَعْبُدُونِ([6])[.

2.  إقامة خلافة التوحيد على هذا الكوكب فقال: ]إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً([7])[.

3. عمارة هذا الكوكب فقال: ]هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا([8])[.

أما الرؤى المختلفة التي تقدمها هذه الجماعات، فهي من حيث التكييف الشرعي لا تعدو عن كونها اجتهادات أشخاصٍ تحتمل الخطأ والصواب، ولو كان مرجع هذه الجماعات الكتاب والسنة وأقوال العلماء؛ لأن هذه الاجتهادات ليست هي عينَ النص الشرعي؛ وإنما هي الفهم البشري لهذا النص، وهو معرّض للخطأ والصواب، وهو حقٌ بالنسبة لعين المجتهد، وللآخرين نفس الحق في أن يُبدو رأيهم في فهم الكتاب والسنة من دون اتهام أو تشكيك.

فالكل مجتهد، واجتهاده محتملٌ للخطأ والصواب، لا يلزم من وجود أي جماعة بطلانُ وجودِ الجماعاتِ الأخرى، وكونُ الجماعة على صواب في مسألة، لا يعني أن كل أعمالها وأفكارها صواب، وكونها مخطئة في مسألة، لا يعني أنها على خطأ دوما، كما أن الخروج على أي جماعة لا يعني الخروجَ على جماعة المسلمين؛ لأن أي جماعة لا تُعدّ هي جماعة المسلمين التي يجب الانضواء تحت لوائها.

إن العقد الاجتماعي في هذه القضايا قائم على حمل القائد الأمانة في العمل لمصلحة الأمة من خلال الجماعة، والنصح لقومه. وإنها لَخيانةٌ عُظمى، عندما يثق الأتباع بزعمائهم فيوردونهم المهالك، والمَزَلات، ويورثونهم الانحرافات الخطرة ، ويخدمون أنفسهم وشيعتهم، على حساب الأمة التي نشأ العمل في الأصل خدمةً لها.

لقد أمر سبحانه مَن تولى أمرَ الناس أن يكون حَكَما عَدْلا، ومشعل نور وهداية، يقود قومه إلى برّ السلام في الدنيا، وجنة الرضوان في الآخرة. و إلا فله في الدنيا ـ غير العصيان سابق الذكر ـ حسابٌ عسير، وعذابٌ شديد في يومٍ يكون الحاكم الوحيد فيه هو الله سبحانه. قال تعالى: )يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ( (([9] .

ولما كانت فرقة المسلمين أمراً لا مفرّ منه كنتيجة طبيعية لانهيار الهيكل السياسي للأمة الإسلامية الذي كان يجمعها، كان لا بد لنا من أن نضع بعض الأسس التي تضبط هذا التفرق لتحفظه من الانحراف والغلوّ الذي قد يجرفه بعيداً عن مصلحة الأمة، وهذا ما سنناقشه من خلال العناوين الآتية:

أولا: الاعتصام بالوحدة ونبذ الفرقة

أـ الوحدة هي الأصل

قال تعالى: ]وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ[([10]).

فإن كان العقل يقبل مسوغات الفرقة كنتيجة لتنوع الاجتهادات في ظرف حالك عويص، فإنّ الرضا بها والتعصّبَ لها ومحاربةَ باقي العاملين في الحقل الإسلامي أمرٌ لا يقبله العقل ولا الدين ولا المنطق، ولا كل من دخل هذه الجماعات بنيّة إعادة مجد الأمة الغابر واستشراف نصرها الموعود؛ لأن هذه الأخلاق لا تأتي بنصرٍ، وإنما هي مدعاة لهزيمة مدمِّرة منكرة، وهذا ما حذّرَنا منه سبحانه بقوله: ]وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[([11]).

وقد كان الرسولr يخشى الفرقة على أصحابه فيحذرهم منها قبل أن تقع، فهاهوr يرسل أبا موسى الأشعريt مع معاذt إلى اليمن فيوصيهما بالتطاوع ونبذ الفرقة قائلا: "تطاوعا، ولا تختلفا"[12].

وعن أبي هريرةt: قال: خَرَجَ رسولُ اللهr ونحن نتَنازَعُ في القَدَرِ، فَغَضِبَ، حتى كأنَّماَ فُقئ في وجهِهِ حَبُّ الرُّمَّانِ حُمْرَةً من الغَضَب، فقال: أبِهَذا أُمِرْتُم؟ أَمْ بهذا أُرسِلتُ إليكم؟ إنَّما أَهْلَكَ من كان قبلَكم كَثْرَةُ التَّنَازُعِ في أمْرِ دِينهمْ، واْختِلافُهمْ على أنبيائهم[13].

وقال رسول اللهe: "إنَّ أبغض الرجالِ إلى اللّه تَعَالَى:الأَلَدُّ الْخَصِمُ" ([14]). قال ابن حجر:

أي الشديد اللدد، الكثير الخصومة[15].

ولله در القائل:

أخاك أخاك إن من لا أخا له    كساع إلى الهيجا بغير سلاح

وإِن ابن عم المرء فاعلم جناحُه       وَهَل ينهضُ البازي بغير جناح

والفكْر الوحْدَوي لا بد له من مناهج تقريبية، وسلوك ودّي، وحسن الظن، وإبداء حسن النوايا، وحسن التواصل والتعاون والتنسيق. والبعد عن كل ما هو مفرّق ويسيء للآخرين أو يوقع في الشبهة وسوء الظن، وقد قال رسول اللهr:"دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلى ما لا يَرِيبُكَ"[16].

ب ـ وحْدة على دَخَن خير من فرقة وندم

إن ما تميز به أهل السنة عن الفِرَق هو الحرص على وحْدة صف المسلمين وكلمتهم، فكما هم أهل السنة فهم كذلك أهل الوحدة والجماعة. قال ابن تيمية: وَسُمُّوا أَهْلَ الْجَمَاعَةِ ؛ لِأَنَّ الْجَمَاعَةَ هِيَ الِاجْتِمَاعُ وَضِدُّهَا الْفُرْقَةُ ؛ وَإِنْ كَانَ لَفْظُ الْجَمَاعَةِ قَدْ صَارَ اسْمًا لِنَفْسِ الْقَوْمِ الْمُجْتَمِعِينَ[17].

ومعلوم أن الأخذ بالضرر الأقل الذي لا يندفع الضرر الأكبر إلا به هو الأصل، فليس الذكي من يفرّق بين الخير والشر، فهذا كل الناس تعرفه ، وإنما الذكي من يميز بين خير الخيرين وشر الشرين[18].

وهذا ما تقتضيه الحكمة التي جاءت بها الشريعة الإسلامية، فإن التنازع بحجة الانتصار للحق مفسدة، بل إن مفسدة المخطئ على نفسه، ومفسدة التنازع على الجميع، فالحكمة بالتوحّد والتعاون لا بالتدابر والتخاصم، يقول ابن القيم رحمه الله: فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه، وعلى صدق رسولهr[19].

كما بيّن ابن القيّم درجات إنكار المنكر فقال:

فإنكار المنكر أربع درجات:

·          الأولى: أن يزول ويخلفه ضده.

·          الثانية: أن يقلّ وإن لم يزل بجملته.

·          الثالثة: أن يخلفه ما هو مثله.

·          الرابعة: أن يخلفه ما هو شرّ منه. فالدرجتان الأوليان مشروعتان، والثالثة موضع اجتهاد، والرابعة محرمة[20].

وبهذا المنهج نستطيع فهم إنكار موسىu على أخيه هارونu عندما استخلفه في بني إسرائيل وقال له: ]اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ[. فعبدوا العجل فنصحهم هارون ولكنهم أصروا، فبقي يعبد ربه مع الموحّدين، مع أولئك الذين عبدوا العجل. وعندما رجع موسى غضبان؛ لأن هارون لم يتركهم ويلحق به، اعتذر هارون بأنه لم يُرد أن يفرِّق بني إسرائيل.

قال تعالى: ] قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا . أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي . قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي[21][[22].

ولم يُنكر موسىu عذرَ هارون، قال السعدي: فندم موسى على ما صنع بأخيه وهو غير مستحق لذلك[23]. وما قاله السعدي يؤيده النص القرآن بقوله سبحانه عن موسى: ]قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[[24].

قال محمد أبو زهرة:

وإنه بلا ريب لو تفرقوا وكنتَ سببا في هذا التفرق لكنتَ من المفسدين، فالتفرق في ذاته فساد وضلال، وإذا كانوا قد ضل بعضهم فهدايته ممكنة، وعودته إلى الحق قريبة، ولكن عند التفرق يكون التعصُّب، وتكون الفتنة بينهم في جموعهم، وهي تزيد فتنة العبادة حدَّة، فلا يمكن حينئذٍ أن يجتمعوا، إذ تتسع هوَّة الافتراق[25].

وهذه العلة التي جعلت الفقهاء يتفقون على انعقاد وِلاَيَةَ الْمُتَغَلّبِ عَلَى الإْمَامَةِ أَوْ غَيْرِهَا مِنَ الْوِلاَيَاتِ، وأفتوا بوجوب طَاعَتهُ فِيمَا يَجُوزُ مِنْ أَمْرِهِ وَنَهْيِهِ وَقَضَائِهِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْل الْبِدَعِ وَالأْهْوَاءِ، مَا لَمْ يَكْفُرْ بِبِدْعَتِهِ ؛ دَرْءًا لِلْفِتْنَةِ، وَصَوْنًا لِشَمْل الْمُسْلِمِينَ، وَاحْتِفَاظًا بِوَحْدَةِ الْكَلِمَةِ[26].

ولنفس العلة كذلك قال ابن تيمية: فَالِاخْتِلَاطُ بِالْمُسْلِمِينَ فِي جِنْسِ الْعِبَادَاتِ: كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ وَالْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَصَلَاةِ الْكُسُوفِ وَالِاسْتِسْقَاءِ وَنَحْوِ ذَلِكَ هُوَ مِمَّا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ وَرَسُولُهُ. وَكَذَلِكَ الِاخْتِلَاطُ بِهِمْ فِي الْحَجِّ وَفِي غَزْوِ الْكُفَّارِ وَالْخَوَارِجِ الْمَارِقِينَ، وَإِنْ كَانَ أَئِمَّةُ ذَلِكَ فُجَّارًا، وَإِنْ كَانَ فِي تِلْكَ الْجَمَاعَاتِ فُجَّارٌ[27].

والله سبحانه الذي هو من قدّر هذا الخلاف، وهو أعلم به وبأسبابه، وهو أمرنا أن نحرص على التوحد والتعاون على الخير، وأن نوحّد كلمتنا ضد العدو المشترك. قال تعالى: ]وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[[28].

وقال: ]إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ[[29].

فأمرهم بوحدة الصف، ولم يكتف سبحانه حتى وصف صفهم بالبنيان، ثم أردف وزاد التأكيد بجعل البنيان مرصوصا. وهذا تأكيد بليغ لأولي الألباب ما بعده تأكيد.

وفي التاريخ عبرة لأولي النُّهى، ففي صفحات تاريخنا أمثلة كثيرة ولاسيما في الأندلس، حيث كثرت فرقة المسلمين فظهر عليهم الأسبان وأخذوها منهم عنوة بعد أن ساموهم سوء العذاب، ولقد سطر التاريخ في ناصيته مقولة لابن عَبّاد عن خطر التنازع وضرورة الوحدة للوقوف في وجه الخطر الخارجي إذ قال: رعي الإبل خير من رعي الخنازير، وكان سبب مقولته هذه أن قائد الإفرنج الأذفونش حشد جنوده ، وهدد المعتمد بن عباد حاكم إشبيلية إن لم يُسَلم الملك له، فأراد ابن عباد أن يستنجد بملك المغرب يوسف بن تاشفين، فخوفته جماعة من غدر ملك المغرب به طمعا بملكه، فأجابهم:

رَعي الجمال خيرٌ من رَعي الخنازير

 وقصده: أن يأسره ابن تاشفين ويشغّله برعي جماله، خير من أن يأسره الإفرنج ليرعى خنازيرهم!! وأن يلجأ المرء إلى أهله ومن هم منه ويذل عندهم، خير له من أن يلجأ إلى العدو ويموت عندهم ، وهذا ما عبر عنه الشاعر بقوله :

بلادي وإن جارت علي عزيزة        وقومي وإن ضنوا عليّ كرام

ولقد صور أبو البقاء الرندي عروش المسلمين وهي تتهاوى تحت أقدام الإفرنج بقصيدة مروّعة جاء فيها:

لكل شيءٍ إذا ما تم نقصانُ                      فلا يُغرَّ بطيب العيش إنسانُ

هي الأمورُ كما شاهدتها دُولٌ                  مَن سَرَّهُ زَمنٌ ساءَتهُ أزمانُ

وللحوادث سُلوان يُسهّلها                       وما لما حلّ بالإسلام سُلوانُ

دهى الجزيرة أمرٌ لا عزاءَ له                 هوى له أُحدٌ وانهد ثهلانُ

أصابها العينُ في الإسلام فارتزأتْ            حتى خَلت منه أقطارٌ وبُلدانُ

فاسأل (بلنسيةً) ما شأنُ (مُرسيةً)              وأينَ (شاطبةٌ) أمْ أينَ (جَيَّانُ)

وأين (قُرطبة)ٌ دارُ العلوم فكم                  من عالمٍ قد سما فيها له شانُ

وأين (حمص)ُ وما تحويه من نزهٍ             ونهرهُا العَذبُ فياضٌ وملآنُ

تبكي الحنيفيةَ البيضاءُ من أسفٍ               كما بكى لفراق الإلفِ هيمانُ

على ديار من الإسلام خالية                   قد أقفرت ولها بالكفر عُمرانُ

حيث المساجد قد صارت كنائسَ ما          فيهنَّ إلا نواقيسٌ وصُلبانُ

حتى المحاريبُ تبكي وهي جامدةٌ             حتى المنابرُ ترثي وهي عيدانُ

يا غافلا وله في الدهرِ موعظةٌ                إن كنت في سِنَةٍ فالدهرُ يقظانُ

وماشيًا مرحًا يلهيه موطنهُ                     أبعد حمصٍ تَغرُّ المرءَ أوطانُ؟

تلك المصيبةُ أنستْ ما تقدمها                  وما لها مع طولَ الدهرِ نسيانُ

يا راكبين عتاق الخيلِ ضامرةً         كأنها في مجال السبقِ عقبانُ

وحاملين سيُوفَ الهندِ مرهفةُ                  كأنها في ظلام النقع نيرانُ

وراتعين وراء البحر في دَعةٍ                  لهم بأوطانهم عزٌّ وسلطانُ

أعندكم نبأ من أهل أندلسٍ                      فقد سرى بحديثِ القومِ رُكبانُ؟

كم يستغيث بنا المستضعفون وهم             قتلى وأسرى فما يهتز إنسان؟

ماذا التقاُطع في الإسلام بينكمُ                 وأنتمْ يا عبادَ الله إخوانُ؟

ألا نفوسٌ أبَّياتٌ لها هممٌ                       أما على الخيرِ أنصارٌ وأعوانُ

يا من لذلةِ قومٍ بعدَ عزِّهمُ                      أحال حالهمْ جورُ وطغيانُ

بالأمس كانوا ملوكًا في منازلهم               واليومَ هم في بلاد الكفرِّ عُبدانُ

فلو تراهم حيارى لا دليل لهمْ                  عليهمُ من ثيابِ الذلِ ألوانُ

ولو رأيتَ بكاهُم عندَ   بيعتهم؟        لهالكَ الأمرُ واستهوتكَ أحزانُ

يا رُبّ أمّ وطفلٍ حِيلَ بينهما                   كما تفرّق أرواحٌ وأبدانُ

وطفلةً مثل حسنِ الشمسِ إذ طلعت            كأنما هي ياقوتٌ ومرجانُ

يقودُها العلجُ للمكروه مكرهةً                  والعينُ باكيةُ والقلبُ حيرانُ

لمثل هذا يذوبُ القلبُ من كمدٍ                 إن كان في القلبِ إسلامٌ وإيمانُ

ثانيا: التعامل مع حرب الشائعات

لقد حذّر القرآن الكريم المؤمنين به من الغزو الفكري الموجّه من غير المسلمين، ومن القلاقل والشُّبَه التي يُثيرونها، سواء أكانوا منافقين سريين أم أعداء مجاهرين، وبيّن سبيل المجرمين ليتقوها فقال: )وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ(([30]).

ولقد استعمل سبحانه أسلوب التهديد والوعيد لإلجام الأفواه التي لا تفتأ تفتّ بشائعاتها عضد المسلمين وتؤثر في أمنهم ووحدتهم، قال تعالى: )لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا. مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا. سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا(([31]). هذه الآيات فيها تهديد للمنافقين الذين يزرعون الخلل في الصف الإسلامي بما يثيرونه من شبهات وقلاقل بالتقتيل والطرد خارج البلاد، وما كان للمنافقين أن يرفعوا رأسهم ولا ليقوى نفوذهم لولا الدعم الخارجي والولاء لأعداء الأمة خارج الحدود، قال تعالى: ]بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا. الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا[[32] والهدف من هذا هو الردع لحفظ وحدة الصف المسلم، ولوقاية أمن وفكر المجتمع المسلم من شائعاتهم وغزوهم الفكري.

وما كان لهذا الغزو وتلك الشائعات أن تؤثر لو كان الشعب محصّناً، فإن أمكن أن ينجو أهلُ العلم المتين والنظر الثاقب والهداية من هذا الغزو والشائعات، إلا أن ذلك يبقى متعذراً على الجمهور، ولذلك لا ينبغي على القيادة أن تترك جمهورها نهباً للأفكار والشائعات، ولا ينبغي لها أن تستصغر خطرها المدمّر، فإن كان في الصحابة من تفتنه بعض تلك الشائعات فمن باب أولى أن يتورط بها من جاء بعدهم قال تعالى: ]لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ[[33]. فالتحدي هو في المخلصين البسطاء السمّاعين لهم ممن هم في صفنا!!

ولتزيد المسألة وضوحاً وإثباتاً ضرب لنا سبحانه مثلا من حرب الجواسيس عندما يمكرون بالصف الإسلامي ويستهدفونه ببعض سهامهم المسمومة المدروسة بعناية، فهاهو ابن أُبَيّ رأس الجواسيس المنافقين في المدينة يُغمد خنجر غدره في عِرْض زوج رسول اللهr أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها فيما عُرف بقصة الإفك([34])، قال تعالى: )إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ. لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ. لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ. وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ. إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ. وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ. يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ. وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ. إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ(([35]). وفي هذه الآيات الكريمات بيّن لنا سبحانه أساليب الوقاية من الشائعة بما يأتي:

أـ المبادرة وقت سماع الشائعة إلى حسن الظن بالصف الإسلامي عامةً ، وبقيادته. فقال: )لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا(.

ب‌-    المبادرة إلى التكذيب ما لم تعرض له الأدلة الصحيحة مقرونة بما يشاع؛ لأن سوء الظن بالخصم والعدو مقدَّم على حسن الظن، وعكس ذلك بما يخص الصف الإسلامي: )وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ(. طلبَ قولَ هذا وقت السماع المجرد عن الدليل.

ت‌-    طلب الدليل والتثبّت وقت السماع. وبمعنى آخر تلقِّي الأخبار حسب الأصول العلمية من التثبت وطلب البيّنات، وإن كان هذا مطلوباً داخل الصف الإسلامي، فمن باب أولى أن يُطلب من الأعداء. )لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ(.

ث‌-    التخويف والتحذير من أن الخوض ببعض الشائعات مدعاة لغضب الله وعذابه: )لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ(.

ج‌-     عدم التكلم بما سُمع من شائعات حتى تثبت أولًا، ثم حتى يتبيّن المصلحة والخير في إشاعته.)إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ(. وكأنهم سمعوا بلسانهم وقالوا بلسانهم. والأصل أن يسمعوا بآذانهم التي توصل الكلام إلى العقل فيتفكر فيها ثم يأمر اللسان بقول ما رأى العقلُ المصلحة بقوله.

ح‌-     ينبغي على المسلم أن يكون عاقلاً واعياً يقدّر الأمور كما ينبغي، ويفهمها كما ينبغي، فلا ينساق إلى ترديد كلام مستحيل لا يمكن أن يكون واقعياً بشكل ما، بل الواقع على خلافه تماما، يُدرك هذا المسلم بأدنى تأمل. وهذا يُستفاد من قوله: )بُهْتَانٌ عَظِيمٌ( والبهتان يخالف الواقع دائما، ويكون أعظم ما يكون عندما يكون معاكسا للواقع، وهو الإفك. وهذا ما سمى به الله سبحانه هذه الأخبار عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها. فليس من المعقول أن تزني امرأة النبيr مهما كان الأمر، حتى لو كانت كافرة كامرأة الرسول نوح وامرأة لوط ـ عليهما السلام ـ فقد أجمع العلماء على أنه لم تزن امرأة نبي قط([36]).

خ‌-     التخويف من أن ترديد بعض الشائعات يضع المسلم المتردّد على مفترق طريق مع دينه، فيخسر الدنيا والآخرة. وهذا مستنبط مما تفيده )إِنْ( من التشكيك )إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ(.

ثالثا: توحيد المرجعية

1-     الاعتصام بالكتاب والسنة، واتباع سلف الأمة

الاعتصام بالكتاب والسنة وقاية مَن لا وقاية له، وملجأ منيعٌ وحصن حصين، لمن أراد الهداية والسداد، قال تعالى: )وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ(([37]). ولذلك حذّرنا سبحانه من مخالفة الرسولr  فقال: )فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(([38]). والفتنة تعبير بليغ عن اختراق الأمن الفكري.

إلا أن الاعتصام بالكتاب والسنة لن يكون وقاية للأمن الفكري إلا إذا تم الأخذ بهما على ما أراد الله سبحانه من كتابه، وما أراده الرسولr من سنته. فلو استقرينا تاريخ الفِرق الضالة التي تدّعي الإسلام ظاهرا، لوجدناها في المجمل لا تنكر الكتاب ولا السنة، وإنما تؤولهما تأويلا يتناسب مع ضلالاتهم بعيدا عن أصول الفهم للكتاب والسنة.

وفي أيامنا نجد الكثيرين من أمثال هؤلاء الذين يحشرون أنفسهم ويتطاولون باستنباطهم وتفسيرهم للكتاب والسنة على طريقة تلك الفرق الضالة، بحيث يخدمون بتفسيراتهم مصلحة شخصية، أو سياسة أو فكراً معينا. ومن هنا صارت الحاجة ملحة لمعرفة الطريقة التي نتحرى فيها قصد الله ورسوله في فهمنا للكتاب والسنة بطريقة سليمة مهتدية، وهنا لا بد من أمرين:

الأول: فهم سلف الأمة الذي تلقى التشريع مباشرة من رسول اللهr، ورآه يطبقه، وقد أثنى الله عليهم وعلى هدايتهم، بل أمرنا باتباع هديهم فقال: )وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ(([39]). وهذه الطريقة تجعل الإنسان على بصيرة من أمره، ولذلك قال الله لرسولهr: )قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ(([40]).

الثاني: فهم الكتاب والسنة والاستنباط منهما له شروط وأصول مثل: فهم اللغة العربية، وإدراك أساليب العرب، ومعرفة عاداتهم وأخبارهم ، وأصول التفسير وأصول الفقه، وعلوم القرآن الكريم وغير ذلك مما هو معلوم في كتب الأصول.

فإذا اتبعنا هذين الأمرين نكون قد اعتصمنا بالكتاب والسنة، وتحرّينا قصد الله سبحانه من كتابه، وقصد الرسولr من سنته، فمن أخطأ بعد ذلك يكون معذورا، وبغير هذه الأصول يكون ضالاً. وقد قال الرسولr: «تَركْتُ فيكُمْ أَمْرَيْنِ لنْ تَضِلُّوا ما تَمسَّكْتُمْ بهما: كتابَ الله، وسنّة رسولِهِ»([41]).

2-     طاعة أولي الأمر

قال تعالى: )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا(([42]). وقال: )وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا(([43]).

طاعة أولي الأمر مهمة لتحقيق مصلحة الأمة، وجمع كلمتها، فالدين الإسلامي من طبيعته أنه يخاطب العقل، ويدعو إلى التأمل والتفكر، وفي هذا تربية للأمة، وتنمية للعقل الذي بعظمته تعظم الأمم وتسود الحضارات، ولكن هذه الحرية الشرعية المعطاة للعقل قد تسبب بعض الإشكالات والخلافات عندما نختلف في فهم الدين، وأسباب الخلاف في فهم الدين كثيرة، منها الجهل وعدم الاطلاع على أصول الاجتهاد، ومنها اتباع الهوى، ومنها التعصب، ومنها التقليد، وغير ذلك. وتبقى الخلافات بسيطة ما لم تهدد أمن البلاد الفكري، وثقافة الوطن، فمثل هذا الخلاف يهدد أمن الدولة، وهوية الأمة، وعندئذ لا بد من حسمه، والوقاية منه.ٍ

 ولذلك أمرت الشريعة باتّباع أولي الأمر، ولو خالفوا الرأي الشخصي، إذ طالما تكلم أولوا الأمر في هذه المسألة, وطلبوا الطاعة فيها، فهذا يعني أنهم تبنوا فهما معينا فيه ـ حسب رأيهم ـ صلاح البلاد والعباد، وطاعة أولي الأمر في هذه المسألة لا تعني أن يغيّر الفردُ فهمه؛ لأن هذا ليس بوسعه ما لم يقتنع، وإنما المقصود من هذا ترك العمل في الجماعة برأيه المخالف لرأي ولي الأمر، فإن اقتنع بكلام ولي الأمر كان بها، وإن لم يقتنع احتفظ برأيه لنفسه فقط، والتزم بما عليه الجماعة من طاعة أولي الأمر حرصاً على وحدة الأمة، وتماسك البلاد.

إلا أن المسألة هنا تستدعي منا تعريف (أولي الأمر) المطلوب طاعتهم، فإن المطلع على كتب الأصول يجد عدة آراء:

- فمن العلماء من رأى أن ولاة الأمر هم الأمراء، ومنهم من رأى أنهم العلماء([44]).

- ومنهم من جمع فقال: العلماء والأمراء: ومن هؤلاء الفلاني([45]). والآمدي([46]). والشاطبي([47]).

وإذا فهمنا قصد العلماء من هذه الأقوال نرى أنهم لم يختلفوا. فإن طاعة الأمراء بالمعروف متفق عليها أصلاً، وهي من بدهيات الدين. وإنما قصد من قال: إنهم العلماء وليس الأمراء أمران:

الأول: هو أن الحكام يسمعون للعلماء، فطاعة العلماء يتبعها على طريقتهم طاعة الأمراء.

الثاني: إن طاعة الأمراء منصوص عليها بنصوص كثيرة جداً، وبخاصة في السنة النبوية، ولا نقاش فيها، فهي واجبة بالإجماع([48]) على العلماء وغيرهم، وإنما قالوا: المقصود بهم العلماء؛ لقوله تعالى في الآية السابقة: )لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ( قالوا: هم العلماء؛ لأنهم هم أهل العلم والاجتهاد. لذلك قال السرخسي: فإن أمراء السرايا إنما يستنبطون بالرأي إذا كانوا علماء([49]). وقال البيضاوي: العلماء هم أولوا الأمر؛ لأن أمورهم تنفذ على الأمراء والولاة([50]).

وهكذا يتضح بأن أولي الأمر على الإطلاق هم الأمراء والعلماء على الطريقة التي وضحتها آنفا، وأما إن قيل: (ولي الأمر) بالمفرد فعندئذ يُقصد به الحاكم الذي اتفق عليه المسلمون.

ولو نجحت الجماعات والفرق في الاتفاق على مجموعة من المثقفين العلماء أصحاب الصدق والإخلاص والخبرة والمبادئ والتاريخ المشرّف، لتكون حكما عدلا لإزاحة أسباب التنازع والخلاف، ورسم سبل التعاون وتنسيق الجهود، لكان في هذا بعض التقدم في التحاكم إلى أولي الأمر.

رابعا: توحيد المواقف في مواجهة الطرف الثاني

والطرف الثاني هنا ليس فرقة أو جماعة إسلامية، فإن العاملين للإسلام بنظرنا طرف واحد متصدّع، لكنه مأمور أن يلتئم عند مواجهة الطرف الثاني غير المسلم، فقد قال تعالى: ]وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[[51].

فالأصل أن يكون القائد واحدا لجماعة واحدة، فإذا انفرط العقد كما هو الحال كان العمل على ما يشبه الوحدة مطلوبا، فما لا يدرك كله لا يترك كله، كما أن إقامة دولة الإسلام واجب، ولا يتم هذا الواجب بالتفرق لا دينا ولا دنيا، وبالتالي ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فالوحدة والتعاون واجبان.

ومما لا بد منه حتى في حالة التفرق أمور:

أـ توحيد المواقف تجاه الأخطار الداخلية

العدو الداخلي هو ذلك الجاسوس المنافق الذي يقبع داخل الجسد الإسلامي يتصيد هفواته وينقل تحركاته، فإن المنافقين أشبه ما يكونون بجرثومة تعيش في جسمٍ لتفسده ولتخضعه لما تريد، وإن البشرية عبر عصورها عانت وتعاني من هذا الصنف من الناس أيما معاناة، وتكبدت بسببهم خسائر أيما خسائر.

وما أحسن تعبير ابن القيم عن تخريبهم ومكرهم حيث قال: فلله كم من معقل للإسلام قد هدموه؟! وكم من حصن له قد قلعوا أساسه وخرّبوه! وكم من عَلَم له قد طمسوه! وكم من لواء له مرفوع قد وضعوه! وكم ضربوا بمعاول الشُّبه في أصول غراسه ليقلعوها! وكم عمّوا عيون موارده بآرائهم ليدفنوها ويقطعوها!. فلا يزال الإسلام وأهله منهم في محنة وبلية، ولا يزال يطرقه من شبههم سرية بعد سرية. ويزعمون أنهم بذلك مصلحون: )أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ(([52]). ولذلك جعلهم الله أعدى أعداء الدين والمسلمين فقال: )هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ(([53]).

لقد عجب سبحانه من اختلاف المسلمين في أمر عدوٍّ داخلي لا ينبغي الاختلاف فيه فقال: ]فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا . وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا . إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا . سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا[([54]).

وعن سبب نزول هذه الآيات روى مسلم بسنده عن عدي قال: سمعت عبد الله بن يزيد يحدث عن زيد بن ثابت؛ أن النبيe خرج إلى أُحُد، فرجع ناسٌ ممن كان معه. فكان أصحاب النبيe فيهم فرقتين: قال بعضهم: نقتلهم. وقال بعضهم: لا. فنزلت: ]فما لكم في المنافقين فئتين[؟! ([55])

وقال العوفي عن ابن عباس: نزلت في قوم كانوا قد تكلموا بـالإسـلام وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم. فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس.. وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم، فإنهم يظاهرون عدوكم. وقالت فئة أخرى من المؤمنين: سبحان الله: - أو كما قالوا - أتقتلون قوما قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به؟ من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم نستحل دماءهم وأموالهم؟! فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهَى واحداً من الفريقين عن شيء، فنزلت: ]فما لكم في المنافقين فئتين[؟.. رواه ابن أبي حاتم، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا([56]).

 ومع أن الرواية الأولى أوثق من ناحية السند والإخراج ، إلا أننا نرجّح مضمون الرواية الثانية، بالاستناد إلى الواقع التاريخي، فالثابت أن منافقي المدينة لم يرد أمر قتالهم، ولم يقاتلهم الرسولe أو يقتلهم إنما كانت هناك خطة أخرى مقدّرة في التعامل معهم. هي خطة الإغضاء عنهم، وترك المجتمع نفسه ينبذهم، وتقطيع الأسناد من حولهم بطرد اليهود - وهم الذين يغرونهم ويُملُون لهم - من المدينة أولا، ثم من الجزيرة العربية كلها أخيرا.. أما هنا فنحن نجد أمراً جازما بأخذهم أسرى، وقتلهم حيث وجدوا: مما يقطع بأنهم مجموعة أخرى غير مجموعة المنافقين في المدينة... ولكن كلمة (يهاجروا) تقطع - في هذه الفترة - بأنهم ليسوا من أهل المدينة. وأن المقصود هو أن يهاجروا إلى المدينة([57]).

وكذلك رجّح الطبري أنها لم تنزل في منافقي المدينة فقال: وأولى هذه الأقوال بالصواب في ذلك قول من قال: نزلت هذه الآية في اختلاف أصحاب رسول اللهe في قوم كانوا ارتدوا عن الإسلام بعد إسلامهم من أهل مكة([58]).

والذي يهمنا من كل هذه الروايات أن الله سبحانه لم يرضَ عن اختلاف المؤمنين بشأن المنافقين، إذ إن خطراً عظيما كخطر المنافقين ينبغي أن تتوحّد فيه الآراء ليرموا عن قوس واحدة؛ لئلا تقوى شوكتهم، ويعظم خطرهم في الجسد الإسلامي.

ولهذا كان لا بد من معاملتهم معاملة الأعداء وإن كانوا يدّعون الإسلام ويُظهرون الانتماء إلى أهله!.

قال تعالى فيهم: ]وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ[([59]).

(هم العدو) أي الكاملون في العداوة؛ لأن أعدى الأعداء العدو المداجي الذي يكاشرك وتحت ضلوعه الداء الدوي([60]) هم العدو الحقيقي. العدو الكامن داخل المعسكر، المختبئ في الصف، وهو أخطر من العدو الخارجي الصريح (فاحذرهم) ([61]).

وفي رمي المنافقين عن قوس واحدة فائدتان عظيمتان:

أ - لو قاتلتهم فرقة من المسلمين وسالمتهم أخرى. لكانت الأخرى ملجأ لهم من الأولى.

ب- التزام الأصل الشرعي وهو أن حرب المسلمين واحدة وصلحهم واحد. وأكثر الأضرار التي لحقت بالأمة عبر التاريخ كانت ناجمة عن قتال فئة دون فئة، أو فئة تسالم دون فئة أو فئات.

ومن أبرز أهداف المنافقين من النفاق:

1- التسلل عن طريق النفاق إلى مراكز الحكم ومقاليد الأمور، إشباعا لشهوة حب الظهور والعظمة، وتحقيقاً لأهدافهم وأهوائهم .

3-     اختراق الصف الإسلامي لحرب الإسلام والمسلمين من داخل صفهم وجسدهم.

ولا يخفى ما في هذا الأسلوب من بلاء عظيم قد يودي بكل ما يبنيه المسلمون لو غفلوا عن المنافقين، وتاريخ الأمة مليء بالمآسي التي كان خلفها المنافقون ولا يزالون.

ولما كان المنافق يتترس بكلمة التوحيد صار خطره عظيما، فعالج القرآن كيده بضده، ففضح أساليبهم الخفية الماكرة، ومن أهم ما تناوله القرآن الكريم عنهم:

تأسيس مراكز للغزو الفكري (مسجد الضرار)

قال تعالى: )وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ. لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ. أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ. لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ(([62]). لقد بنى المنافقون بهدف حرب الإسلام والمسلمين هذا المسجد، لعقد مؤتمراتهم وتلقّي ما يأتيهم من مراسلات خارجية([63]). والغريب في الأمر أنهم لم يبنوا كنيسة، ولا بَيْعة، وإنما بنوا مسجدا! ليكون بناء منافقاً يختلف ظاهره عن باطنه، كحالهم بالضبط.

ومن باب الوقاية من هذا الغزو:

§     أفهمنا سبحانه أن المنافقين ومَن وراءَهم قد يقدمون على خطوات خيرية في ظاهرها، فينبغي أن ننظر لها بعين الريبة؛ لأنها لا تنسجم مع معتقداتهم وسلوكهم. فكيف يبنون عروش الدين وأركانه وهم المحاربون له ولأهله. فانظر إلى مسجدهم كيف وصفه سبحانه بأنه: )ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ(.

ومساجد الضرار في زماننا ألوان وأنواع. فطوراً تكون مسجداً، وطوراً تكون حزباً أو جماعة أو جامعةً، أو معهدا شرعيا، أو صحيفة إسلامية أو غير إسلامية، أو فلما أو مسلسلا تاريخيا أو غير ذلك، أو هيئة أو مؤسسة إغاثة خيرية! فتكون اللافتة لله، وعندما تعرف مناهج هذه الجهات وخلفياتها الحقيقية ، ونوعية العاملين فيها ، وطريقة التطبيق، وطرق جمع المعلومات والتقارير، ومآلها والمكان الذي تصب فيه، ولماذا توجد في مكان ما ولا توجد في مكان آخر، وكيف يستغلون الأحداث والظروف وغير ذلك ، عندما تعرف كل هذا تدرك أنهم لا يبنون لله مسجداً واحداً إلا ليرفعوا في ظلاله ألف صنم، وبالتالي فمن الحماقة استجداء كرمهم ليبنوا لنا صرح هذا الدين وعزّه!! ومن الغباء ألا نعرفهم.

§     منع سبحانه رسوله من إعطائهم التزكية والمباركة لمؤسساتهم فقال له: )لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ(. وفي هذا المنع ما فيه دلالة مقاومتهم وردعهم .

§     ولم يكتف بهذا حتى هدم مسجد الضرار ليكون عبرة وإنذاراً لكل مؤسسة منافقة داخل الجسد الإسلامي.

§     مراقبة المشكوك فيهم عامة ، وفي أمر الجهاد خاصة، والنظر إليهم بعين الفراسة والفطانة. وامتحان المنافق بالجهاد أمر قرآني عاتب سبحانه رسوله عندما فَوّت فرصة امتحان المنافقين بالجهاد إذ جاؤوه في غزوة تبوك معتذرين فعذرهم، فصار بقاؤهم في المدينة بعذر شرعي لا يعدّ تخلفا عن الجهاد، ولو لم يعذرهمr لاضطروا للانسحاب بغير غطاء شرعي، وفُضح أمرهم للجمهور؛ لأن غزوة تبوك كانت إلى تبوك في بلاد الشام آنذاك، وكانت وقت اشتداد الحر، قال تعالى: ]عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ[[64].

فإن المنافق أو الجاسوس يدّعي عقيدة لا يؤمن بها، بل يحاربها، فيصعب عليه أن يقدم التضحيات المعتبرة، أو أن يجازف في معركة مع الصف الإسلامي لا يضمن سلامته منها ولا تحقق أهدافه .

فالمنافق مستعد لبعض البذل الذي يرجع إليه بمردود أكبر من جهة، وللحصول على ثقة المسلمين التي تمكّنه من الإضرار بهم من جهة أخرى.. إلا أنه غير مستعد لغير ذلك ، وغير قادر على الانخراط في عمل يفيد المسلمين ما لم يكن في انخراطه هدف للنيل منهم ومن  الإسلام .

فهو مستعد مثلا لأن يلبس لباس العساكر المجاهدين، وأن يموّه سيارته بالطين، وقد يحوم حول حمى المعارك وأماكن المهاجرين، ولعله يوزع عليهم بعض الخيام والبطانيات التي أخذ أضعاف ثمنها حين نصّب نفسه متكلما باسم المجاهدين، وإذا ما رجع من رحلته الجهادية المزعومة انتصب فاتحاً فمه أقصى ما يستطيع، وتكلّم عن الجهاد والمعارك واختلاط الدماء بالتراب، وكأنه كان يقود المعركة! ونظر إلى الناس من حوله شزراً ، ووصفهم بالتخاذل والفرار من الزحف! ولعله اعتصر دمعة باردة من عين خائنة، جعلت من حوله يظنّونه من حرّاس الأنبياء وحواريي الرسل، ويكون بعد ذلك متكلما باسم الجهاد، إذا فتح فمه سكت الباقون، وإذا أرادوا إنشاء عمل أو مؤسسة كان هو المرشح للرئاسة! ولعل طموحاته تكون أكبر فيترأس عملا إسلاميا يجالس من خلاله قيادات المسلمين!!.

إن ما أقوله ليس خيالا، ولا ضرباً من الأساطير والخرافة ، وإنما نسبة ضئيلة من واقع نعيشه ونتجرع آلامه.

 

ب ـ توحيد المواقف تجاه الأخطار الخارجية

وحدة الموقف من باكورة التعليمات التي أرساها الرسولr في المدينة المنورة مطلع الهجرة النبوية، فقد جاء فيما يخص المسلمين مما سُمي بوداع اليهود:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

 هَذَا كِتَابٌ مِنْ مُحَمَّدٍ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ مِنْ قُرَيْشٍ وَيَثْرِبَ، وَمَنْ تَبِعَهُمْ، فَلَحِقَ بِهِمْ، وَجَاهَدَ مَعَهُمْ، إنَّهُمْ أُمَّةٌ وَاحِدَةٌ مِنْ دُونِ النَّاسِ، وَأَنْ لَا يُحَالِفَ مُؤْمِنٌ مَوْلَى مُؤْمِنٍ دُونَهُ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ الْمُتَّقِينَ عَلَى مَنْ بَغَى مِنْهُمْ، أَوْ ابْتَغَى دَسِيعَةَ ظُلْمٍ، أَوْ إثْمٍ، أَوْ عُدْوَانٍ، أَوْ فَسَادٍ بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَإِنَّ أَيْدِيَهُمْ عَلَيْهِ جَمِيعًا، وَلَوْ كَانَ وَلَدَ أَحَدِهِمْ، وَلَا يَقْتُلُ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنًا فِي كَافِرٍ، وَلَا يَنْصُرُ كَافِرًا عَلَى مُؤْمِنٍ، وَإِنَّ ذِمَّةَ اللَّهِ وَاحِدَةٌ، يُجِيرُ عَلَيْهِمْ أَدْنَاهُمْ، وَإِنَّ الْمُؤْمِنِينَ بَعْضُهُمْ مَوَالِي بَعْضٍ دُونَ النَّاسِ، وَإِنَّ سِلْمَ الْمُؤْمِنِينَ وَاحِدَةٌ، لَا يُسَالَمُ مُؤْمِنٌ دُونَ مُؤْمِنٍ فِي قِتَالٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، إلَّا عَلَى سَوَاءٍ وَعَدْلٍ بَيْنَهُمْ...وَإِنَّكُمْ مَهْمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ، فَإِنَّ مَرَدَّهُ إلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ[65].

والنقاط التي تهمنا فيما نحن فيه من هذا الوداع ما يأتي:

1.    المسلمون أمة واحدة من دون الناس.

2.    وجوب تعاون المسلمين ووحدة موقفهم في رد ظلم من بغى عليهم.

3.    لا يُنصر كافر على مؤمن.

4.    سِلم المؤمنين واحد، لا يسالم مؤمن دون مؤمن في قتال في سبيل الله.

5.    كل اختلاف بيننا مرده إلى الله ورسوله. وفي أيامنا لأولي الأمر العالمين بالكتاب السنة، وقد مر معنا تعريف أولي الأمر.

ثم إن وحدة الموقف منصوص عليها في قوله تعالى: ]وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ[[66].

وقال: ]إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ[[67].

فإن لم نستجب لما أمر الله ورسوله، فلا ينبغي أن نعجب من خزي وفشل محققين أنبأنا سبحانه بهما في قوله: ]وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِين[[68].

بل إن الخطر سيكون أعظم فيما لو اختل ميزان الولاء والبراء، فاختلطت الصفوف والولاءات، مما يجعل الفتنة تعمّ الأرض كما في قوله تعالى: ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ... وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ[[69].

خامسا: التنسيق المتبادل

بعد هجرة الرسولr آثر بعض الصحابة أن يمكثوا في أموالهم وأولادهم في مكة لسبب أو لآخر، ومع هذا لم يقطع سبحانه كلَّ الأواصر فيما بينهم وبين المسلمين في المدينة، وأوجب على المسلمين في المدينة نصرة إخوانهم في مكة فيما لو كانوا في خطر وطلبوا المساعدة فقال:

]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ[[70].

وقد مرّت معنا الفظائع التي حصلت لإخواننا في الأندلس عندما تفرقوا واختلفوا، فتهاوت عروشهم، وديست كرامتهم، وصار الإسلام فيها أثراً بعد عين.

وكما يقولون: نحن اليوم في زمن التحالفات، فقد شعرت حتى الدول العظمى بمدى حاجتها للأحلاف لتحقيق الأهداف، فما بالك بمشتتين يقبعون في ظلم وحيف وحكم طاغوتي، وشريعتهم الحاكمة معطلة، وكرامتهم مهدورة وأرضهم مسلوبة، ألسنا بأحوج منهم إلى التحالفات؟.. أليس حرياً بنا أن نمد أيدينا لإخواننا ونتكاتف معهم ؟ أم أن أيدي الأعداء أقرب إلينا من أيدي إخواننا!!

وإذا تحالف من لا تجمعهم قومية ولا دين ولا أرض ولا لغة، أليس من الأولى أن نتحالف ويجمعنا: الدين واللغة والأرض والتاريخ والثقافة والحضارة والهدف.

يمكن للتنسيق فيما بيننا أن يتّخذ سبيله من خلال ما تظهره كل فرقة للإعلام من مواقف في صالح الجميع، بعيداً عن المهاترات والحساسيات.

وكذلك في التناصح المتبادل، بدل التربص والفرح بسقطات الأخ في الدين.

        وأعلى درجات التنسيق تكون بالتناصر وهذا ما أشرت إليه أولا.

قال رسول الله r: "المسلمُ أخو المسلمِ،لا يَظْلِمُهُ، ولا يُسْلِمُه، مَنْ كانَ في حاجةِ أخيهِ كانَ اللهُ في حاجتِهِ، وَمَن فَرَّجَ عن مُسلم كُرْبَة فَرَّجَ اللهُ عنهُ بهَا كُرْبة مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسلِما سَتَرَهُ اللهُ يومَ القيامةِ"[71].

 

سادسا: التجرد وترك العصبية

1-   التجرّد:

للعقل أهمية بالغة في حفظ الإنسان من السوء بشكل عام، ولذلك حرّم الإسلام كل ما يلغيه ويعطله، مثل الخمر والمخدرات، بل صار حفظ العقل من مقاصد الشريعة الإسلامية([72])، ولما كانت بعض الأمور مثل القومية والحزبية والقبلية والعشائرية والقرابة والصداقة، وغير ذلك من الوشائج والعلاقات تؤثر في عاطفة الإنسان، ومن ثم تشوّش على تجرّد عقله في اتخاذ ما يناسب من الأفعال والأقوال، أمر الله سبحانه الإنسان أن يتجرّد منها، ويخلو بنفسه لإعمال عقله بعيدا عن المؤثرات؛ لأن هذه أحسن الأحوال لتحقيق الإنصاف والسداد.

لذلك عالج سبحانه هذه الحواجز والعوائق المعكِّرة على العقل صفوه بقوله: )قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ(([73]). فإن الإنسان لو جمع ما ينبغي جمعه من العلم، ثم أعمل عقله بهذا التجرد، سيصل غالبا إلى النتيجة الصحيحة، وسيبني فكره بكل أمن وسلام، ويكون قد أحاط عقله بوقاية لا تضاهى أمام الهوى والأنانية والعصبية المقيتة.

ولذلك أنكر سبحانه على المشركين عدم الإيمان؛ إذ كان يكفي لمعرفة أحقيته مجرد التفكير فقال سبحانه: )وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(([74]). فالعرب تؤمن أن الله يحيي ويميت، ومع هذا عبدت غيره من حجارة هي مخلوقة لهذا الإله في عقيدة العرب! وهذا يأباه العقل السليم.

وبنفس الأسلوب احتج إبراهيمu على قومه؛ إذ عبدوا أصناما لم تستطع أن تقي أنفسها من ضربات الفأس، ومن باب أولى أنها لا تملك لأحد نفعاً ولا ضرا، قال تعالى عن إبراهيمu: )قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ. أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ(([75]). بمعنى أن الوصول إلى الحق في هذه الأمور كان يكفي فيه مجرد إعمال العقل لا غير، ولكن بتجرد، فلو أعملوا العقل على هذه الصفة لوقاهم من الشرْك.

2-   البعد عن العصبية:

الأصل في العمل الجماعي أن الجماعة اصطنعت من أجل رسالة يتفانى أفرادها من أجلها، ومن البدهيات أن تكون مصلحة الدعوة مقدمة على مصلحة أفرادها، فالدعوة هي الأساس في التجمع والتفرق بالنسبة لهم، فيها يوالون ومن أجلها يعادون.

وفي العصبية تكون الصورة على العكس، فتتقدم مصلحة الفرد على مصلحة الدعوة، فتختزل الدعوة وتنتكس لتحقيق مآرب أشخاص أنشبوا مخالب أهوائهم في جسد الدعوة فثبّتوها واستحكموا منها. على أن مصلحة الفرد تتحقق في مصلحة الجماعة لو أنصف ولم يقدم مصلحته على مصلحة الجماعة .

 ومثل هذه العصبيات قد تنتصر في ظرف ما بسبب قدرتها على التخطيط والتنظير، إلا أن الجمهور لا يفتح لها قلبه ولا فكره، وخضوعه لهذه العصابة خضوعُ محتاج ضعيف ينتظر الفرج والتغيير.

والغريب أن هذه العصابة قامت في أساسها على تكوين جماعة تتبنى فكرة، ومبدأ وأهدافا ، وعلى حين غفلة من الأتباع بعيداً عن المبادئ والقيم، تحولت من دعوة ورسالة يموت أتباعها من أجلها، إلى عصابة تُقتل الدعوة ومصلحة الأمة من أجلها.

وهذا التحول حاربه الإسلام في ميدان العمل الإسلامي، فقد كان الرسولr مرهف الإحساس تجاهه بشكل يفوق التوقع، نلحظ هذا عندما «اقتتل غلامان، غلام من المهاجرين، وغلام من الأنصار، فنادى المهاجرُ: يا لَلْمُهاجرين، ونادى الأنصاري: يا لَلأنصَار، فخرج النبيُّr فقال: ما هذا؟ دَعْوى الجاهلية؟ قالوا: لا، يا رسولَ الله إِلا أن غلامين اقتتلا، فَكَسَعَ أحدُهما الآخر، فقال: لا بأس، ولْيَنْصُرِ الرجلُ أخاه ظالما أو مظلوما، إِن كان ظالما فَلْيَنْهَهُ، فإنه له نصر، وإِن كان مظلوما فلينصره»[76].

والغريب أننا لو تساءلنا: أين دعوى الجاهلية بقولهم: يا للأنصار، يا للمهاجرين؟ فالشرع الحنيف هو من أطلق هذه الأسماء، وهي من أحب الأسماء إلى قلوبنا. والجواب: أنه عندما استنصر الأنصاريّ الأنصار على المهاجرين لأنه أنصاري، واستنصر المهاجريّ المهاجرين لينصروه؛ لأنه مهاجري! تحولت هذه الألقاب الجميلة إلى جاهلية مذمومة. ولو كانت من أحب الألقاب إلينا.. فالأصل أن ننصر جميعاً المظلوم بغض النظر عن كونه أنصارياً أو مهاجراً؛ ننصره لأنه صاحب حق فحسب؛ لأن المهاجرين والأنصار أصحاب دعوة واحدة هي الإسلام، لذا لم يسمح الرسولr بتحويل الجماعة والدعوة إلى عصبيات داخلية متناحرة فسماهاr: دعوى الجاهلية.

ويدخل فيها العصبية للقوميات والوطنيات والإقليميات والحزبيات ,و...

قال رسول اللهr: " يَا أَيُّهَا النَّاسُ، أَلَا إِنَّ رَبَّكُمْ وَاحِدٌ، وَإِنَّ أَبَاكُمْ وَاحِدٌ، أَلَا لَا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ عَلَى عَجَمِيٍّ، وَلَا لِعَجَمِيٍّ عَلَى عَرَبِيٍّ، وَلَا أَحْمَرَ عَلَى أَسْوَدَ، وَلَا أَسْوَدَ عَلَى أَحْمَرَ، إِلَّا بِالتَّقْوَى أَبَلَّغْتُ "، قَالُوا: بَلَّغَ رَسُولُ اللهِ"[77].

وقد أبدع ابن القيّم في قصيدته التي على النون حيث قال:

وتعرّ من ثوبين من يلبسـهـما          يلقَ الردى بمذمة وهــــوان

ثوب من الجهل المركّب فوقه                 ثوب التعصب بئست الثوبان

وتحـلّ بالإنصاف أفخـر حـلة          زينت بها الأعطاف والكتفان

سابعا:عصمة الدم والمال والعرض

قد تبدو جريمة القتل مسألة جنائية بعيدة عن الفتن المشتتة، وهي كذلك لو كانت مسألة شجار، أو ثأر أو قتل خطأ، وما شابه ذلك من الجنايات، وهذا النوع عادة لا يهدد وحدة الصف الفكرية، والوقاية منه أخلاقية ودينية سلوكية، إلا أن القتل الذي أقصده هنا هو ذاك الناشئ عن فكر منحرف دخيل على الإسلام، ولو كان الأمر فرديا لهان الأمر، ولكن الخرق اتسع ليصبح تنظيراً لدى بعض الجماعات والأحزاب وغيرها من التكتلات والأنظمة، التي تقتل المؤمن لمجرد خلاف في الفكر، أو الرأي، أو على ذنب لا يستوجب القتل في شريعتنا. وهذه الاستهانة في قتل المسلم دخيلةٌ على الشريعة الإسلامية التي جعلت من مقاصدها حفظ النفس([78])، وبخاصة عندما تقوم بهذا القتل جماعة وليس دولة ذات قضاة من أهل العلم، فتنتزع لنفسها حق إقامة الحدود والقتل وغير ذلك مما يصدر عن اجتهادات بعض المتحمسين للإسلام ممن لم يبلغوا درجة معلومة من العلم والفهم ومراعاة حال ضعف الأمة، وهي بهذا تهدد بكل قوة أمنها الفكري، ولذلك نجد الكثير من النصوص الشرعية التي تتعاضد لتشكل حاجزاً واقياً لهذه النفس. قال تعالى: )وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ(([79]). فهذه الآية تنهى عن قتل كل نفس – أي نفس كانت - حرّم الله قتلها إلا بالحق، ولو لم تكن مؤمنة؛ لأن الأصل في حياة الإنسان الحفظ، ولذلك قال سبحانه: )إِلاَّ بِالْحَقِّ( يعني بالدليل المبيح للدم، وبالقضاء، وليس عن هوى، أو بشكل شخصي حتى لو كان الدليل معه ؛ لأن الذي يُقيم الأحكامَ القضاءُ وليس أفراد الأمة.

وقال تعالى: )وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنا مُتَعَمِّدا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابا عَظِيما(([80]).

ولقد بلغ الترهيب من قتل النفس أن جعله سبحانه قرينا للشرك فقال: )وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَها آخَرَ وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ(([81]). قال الشيخ عبد الرحمن السعدي: لم يرد في أنواع الكبائر أعظم من هذا الوعيد، بل ولا مثله، ألا وهو الإخبار بأن جزاءه جهنم، أي: فهذا الذنب العظيم قد انتهض وحده أن يجازَى صاحبه بجهنم، بما فيها من العذاب العظيم، والخزي المهين، وسخط الجبار، وفوات الفوز والفلاح، وحصول الخيبة والخسار. فعياذًا بالله من كل سبب يبعد عن رحمته([82]).

وأخبرنا سبحانه أنه كتب على بني إسرائيل أنَّ قتل نفس واحدة كقتل الناس جميعا فقال:)مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعا(([83]).

وإن المسلم عندما يتلو هذه الآيات الكريمات في كتاب الله العزيز، تتشكل عنده وقاية من أي فكر منحرف يستهين بالنفس المؤمنة، وتحفظ له منهجه الفكري الذي يأمن به مجتمعه كذلك. وقد يقول قائل: إن الآيات موجودة والقتل موجود! والجواب: لو افترضنا عدم وجود هذه الآيات لكان القتل أكثر مما يتصوره الإنسان، ووجود الآيات شكّل وقاية للكثيرين، كما أن وجود الآيات يعدّ دليلا بيد العلماء والدعاة والوعاظ قويا في الاحتجاج، وذريعة للتركيز على فهمها كما ينبغي، وكلما كان التركيز أكثر كانت الوقاية أكبر.

نتائج:

1.      الأصل في العمل الإسلامي أنه خالص لله.

2.      الأصل في الأمة أن تكون موحدة الجهود .

3.      في حال الفرقة ينبغي التقارب وليس التباعد، والتقابل وليس التدابر.

4.      الجواسيس والمنافقون من أكبر الأخطار التي تهدد العمل من داخله.

5.      مهما كان الخلاف ينبغي أن لا يحول دون وحدة الموقف من العدو الخارجي.

6.      التنسيق والتعاون واجب شرعي بين الفرقاء.

7.      الفرقة لا تلغي واجب التناصر في الدين.

8.      الحذر من أن نكون ضحية للشائعات ، ووجوب التثبت.

9.      وحدة المرجعية للجميع: الكتاب والسنة بفهم سلف الأمة، عن طريق أهل العلم المشهود لهم به.

10.     الوحدة على دَخَن طاعة واجبة، وهي خير من فرقة مدمرة.

11.     التجرد وعدم التعصب، وإعمال العقل وليس الهوى.

12.     دم المسلم معصوم.

13.     لا يجوز أن تسالم فئة من المسلمين وتحارب أخرى، فحرب المسلمين واحدة وصلحهم واحد.

والله من وراء القصد


 

أضف تعليق

نص اتفاقية التعليق


كود امني
تحديث



المرئيات

الصوتيات

ألبوم الصور

تداعت عليكم الأمم