مقالات

هِجرة فوقَ الجمْر

  • طباعة
.
نشر بتاريخ الجمعة, 01 شباط/فبراير 2013 07:22

عبسَت بوجهه الأيّام .. وبَسَرت بين يديه الظّروف . ونَكره الأصدقاء من حوله .. فأدار ظهره مهاجرا إلى المجهول .. يصارع الخوف والجوع.. ويغالب المخالب .. ويتقي الغدرات ..

 
يحاول أن يَثبُت .. يحاول أن يكون شجاعا .. وما أصعب وأغرب شجاعة الضّعيف !.. وعزّة المحتاج !.. وإباء الفقير !..
 
 
لقد كان يحلم بأن يرجع إلى أمه العجوز على غير الحال التي ودعها بها..
 
 كم كان يتخيل ابتسامتها الباكية العريضة وهي تضمّه بحرارة اللهيب إلى حضنها الدّافئ ضمّة لا يبالي بالموت بعدها .. ضمّة تنسيه وتنسيها عضّة السّنين ومرارة الفراق .. كم كان يتخيل دموع الفرح على وجنتيها الشاحبتين من قساوة الأيام ، وتعاقب الأعوام .. كم حلم أنه سيعوّضها عن كلّ دمعة ببسمة .. وعن كلّ حُرقة بضحكة .. وسينسيها أسى الأيام ومرارة الفراق ..
 
كم تخيل أمّه تهتف باسمه .. وتعلي ذِكْره .. وترافقه في الأسواق والمجالس ..
 
وعلى حين غفلة من الأحلام والأماني .. تحمل له الركبان خبرا أصفرَ.. جَللا ..طعنة تدمي قلبه الدّامي .. وتنكأ جرحه القديم .. طعنة تصيب من أحلامه وأمانيه مقتلا .. وترميها بالعراء جثة ..
 
ماتت !.. نعم ماتت .. أمه .. ماتت .. وبموتها ماتت الأحلام .. وهوت الأماني .. واسودّت الأيّام .. أظلم نهاره والشمس في كبد السّماء .. ومع صعقة الخبر.. وغيبوبة القلب المصدوم .. تكشّفت حاجة العزيز .. وبان ضعْف الشجاع .. وظهر فقر الأبيّ .. سقطت تلك الحجب وظهر كل شيء على حقيقته .. فبموتها قتل في حياته .. وما أصعب حياة الحيّ المقتول!..
 
وفي لحظة من لحظات الإيمان العميق .. ينهضُ القتيل .. يلملم بقايا عزته وإبائه .. ويغطي بورقة التوت ضعفه .. ويرتدي ثوب الشجاعة الممزق من جديد .. فقد عزم على أن يُظهر القوّة والشجاعة .. فإن الرجال ـ أسوتهم بالأشجار ـ لا يموتون إلا واقفين ..
 
وبهمّة لا تلين استقبل الزوّار ووفود المعزّين .. وكأن ما كان لم يكن شيئا ..
 
رجعت من العَزاء مذهولا لما جرى .. وعظم عليّ ما رأيت .. وهاجت بيَ العواطف .. وسرحَت بي الأفكار .. وتجاذبتني العبرات والعبارات .. فحملت على قلمي ليكتب بعض ما أحسست :
 
غريب ذلك  العزاء الضاحك .. أين حلل السّواد ؟ .. أين النائحة ؟ أين الدّموع والبكاء ؟ ..
 
غريب ذلك المصاب .. يبتسم ويضحك ( وينكّت ) وقلبه في غيبوبة الأسى يتقطع ألما على الفقيد .. ومع كل ابتسامة دفقة دم حميّ من قلب جريح .. من قلب يريد أن ينفجر .. يريد أن يصرخ .. يريد أن يثور كالبركان.. لكن فمه عليه ألف لجام ..
 
 أبى عليه كبرياؤه إلا أن يبادل الجميع الابتسامات .. بل والضحكات.. ويظنّ أنه أتقن الدّور ! .. لكن عينيه الذبيحتين المضرّجتين كانتا تبوحان بسرّ قلبه المكلوم .. تبثّ العزاء وترثي للجميع مصابها الجلل .. وتجأر إلى ربّ السماوات ساجدة ، تشكو إليه بثها وحُزنها .. ترجوه فرجا .. مخرجا .. أنيسا .. نهاية لدرب الجمر المحرق ..
 
 كان يُطعم الضيوف ويسقيهم قهوة العزاء .. بينما كان قلبه يأكله الحزن والبكاء .. ويتجرّع مرارة الظلم والخذلان والأسى ..
 
ما أصعب أن تفقد الرّوحُ روحَها والقلبُ قلبَه .. ما أصعب أن يغلبك البكاء في دنيا تعجّ بالصّخب والغناء والضحك .. ما أصعب أن يتلاشى صوت الباكي بين ضربات المعازف والأغاني الصّاخبة .. ما أكثر من يشاركك الابتسامة ، وما أندر من يشاركك الدّمعة..
 
 عجيب الإنسان ذلك المخلوق .. عجيبة أطواره .. فما أكثر ما يبكي وقلبه مليء بالفرح والغبطة والسّعادة .. وما أكثر ما يُظهر السّرور والفرح وقلبُـه ينزف من جراح مثخنة عميقة ، تتدفق منها الدّماء الحرّة كحمم البـركان .. يداوي جروح الآخرين ، ويكتم في قلبه الجرح الأكبر  والأخطر ..
 
ما أعظم أن يبتسمَ الواقفُ على الجمر .. ما أصعبَ أن يضحك من يتجرّع الألم ..  وما أعمق جرح من همّ بالضّحك ، فلمْ يُسمَع منه إلا البكاء..
 
إليك كلماتي أيّها العظيم الابتلاء .. فلستَ الوحيد في درْب الجمْر .
 
24/12/2000م