الأبحاث العلمية

قداسة مدينة القدس بين القرآن الكريم والتوراة

  • طباعة
.
نشر بتاريخ السبت, 13 أيلول/سبتمبر 2014 03:37

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.  وبعد،

فإن مدينة القدس ـ بما حباها الله من خصوصية من بعث الأنبياء فيها، وهجرتهم إليهاـ اتفقت الديانات السماوية على قداستها، وبسبب هذه القداسة عند الشعوب والأمم حصل التنافس عليها بينهم.

ونحن في هذا البحث، إنما ندرس هذه القداسة لهذه المدينة بين المسلمين واليهود، لنعلم فلسفة القداسة عند كل من المقدسين، وعلى أي شيء بنيت هذه القداسة، وما تأثيرها على أهلها؟ مستدلا على هذه الدراسة بكتاب الله سبحانه القرآن الكريم. والتوراة([1]) اليوم.

 

وقد قسمت البحث إلى ثلاثة مباحث:

المبحث الأول: قداسة القدس من منظور قرآني

المبحث الثاني: قداسة القدس من منظور توراتي يهودي

المبحث الثالث: مقارنة بين قداسة القدس في القرآن والتوراة

وتحت كل مبحث عناوين تخدمه مدْرجة في فهرس المحتويات.

ملخص البحث

يدرس هذا البحث من خلال منهج وصْفِي تحليلي، قداسة مدينة القدس عند المسلمين واليهود، فيأتي بأدلة كل من الفريقين على ذلك من كتابه، ويناقش الأدلة مناقشة علمية متجردة، لاستخلاص حقيقة هذا التقديس، وأسبابه، وآثاره.

كما يدرس هذا البحث بعض التفاصيل لهذا التقديس، فيتعمق في أمكنة خاصة في هذه المدينة المقدسة، محاولا الوصول إلى أقدس المقدس عند الفريقين، مع إيجاد التعليل لذلك التقديس.

ثم يعقد الباحث مقارنة بين التقديسين، محاولا الترجيح العلمي الشرعي، والعقلي لما ينبغي أن يكون عليه التقديس.

وكذلك يحاول الباحث تمحيص القداسة الشرعية الإلهية الحقيقية، من القداسة المفتراة، لأغراض شخصية، وأهواء نفسية، أو قومية.

تمهيد

عُرفت مدينة القدس عبر التاريخ بأسماء عدة من أقدمها: ما أطلقه الكنعانيون عليها: (أوروساليمUrusalim)، أو: أورسالم، أو: أُورْسُلَيْمٌ؛ بمعنى: مدينة السلام، أو دار السلام. وهو اسم عربي كنعاني، عُرفت به المدينة قبل وصول يعقوب (إسرائيل)u إليها، وحرّفه العبريون ليتناسب مع لغتهم فقالوا: أُورْشَلِيم، كقولهم عن بِئْرِ السَّبْعِ: (بِيرْشِيبَعْ)([2]).

والغريب هنا أن بعض كتب معاجم البلدان وغيرها([3]) تعكس هذه المسألة! فتذكر أقوالا بأن الاسم عبري تعرّبه العرب! وهكذا صار العبري أصلا، والعربي تابعا، وهذا أمر فيه ما فيه من جدل في أيامنا، إذ لا يخفى ما نشهده من صراع مرير على أرض فلسطين.

ويبدو لي بأن ما ذكرته أولا هو الصحيح الذي لا مناص منه؛ وهذا ما يشهد له القرآن الكريم والتاريخ والتوراة. فقال سبحانه: )يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(([4]). فبين سبحانه أنهم ليسوا من أهلها الأصليين، وأن العرب هم السابقون إليها المقيمون فيها، وستتضح هذه الآية أكثر فيما سيأتي في البحث.

وكذلك من حيث التاريخ؛ فمعلوم ما ذكره سبحان من قدوم بني إسرائيل إلى هذه الأرض من خارجها، وسأذكر نقولا في هذا عند حديثي عن الآية السابقة.

وأما التوراة فتذكر هذا بجلاء ـ بحمد الله ـ وكما يقولون من فمك أدينك! فهم يزعمون أنها لهم والتوراة تقول عكس هذا، وإليك هذه الاقتباسات من توارتهم:

"أَمَّا الْيَبُوسِيُّونَ الْمُقِيمُونَ فِي أُورُشَلِيمَ فَلَمْ يَتَمَكَّنْ أَبْنَاءُ يَهُوذَا مِنْ طَرْدِهِمْ، فَسَكَنَ الْيَبُوسِيُّونَ مَعَ بَنِي يَهُوذَا فِي أُورُشَلِيمَ إِلَى هَذَا الْيَوْمِ"([5]).

"وَفِي تِلْكَ الأَيَّامِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فِيهَا مَلِكٌ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ، كَانَ رَجُلٌ لاَوِيٌّ مُتَغَرِّباً فَاتَّخَذَ لَهُ مَحْظِيَّةً مِنْ بَيْتِ لَحْمِ يَهُوذَا. وَلَكِنَّهَا غَضِبَتْ مِنْهُ فَلَجَأَتْ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا ... أَخَذَ زَوْجُهَا خَادِمَهُ وَحِمَارَيْنِ وَتَوَجَّهَ إِلَى بَيْتِ أَبِيهَا لِيَسْتَرْضِيَهَا ...ثُمَّ هَبَّ الرَّجُلُ لِلارْتِحَالِ هُوَ وَمَحْظِيَّتُهُ... وَانْطَلَقُوا جَمِيعاً حَتَّى جَاءُوا إِلَى مُقَابِلِ يَبُوسَ الَّتِي هِيَ أُورُشَلِيمُ ...قَالَ الْخَادِمُ لِسَيِّدِهِ: تَعَالَ نَدْخُلُ إِلَى مَدِينَةِ الْيَبُوسِيِّينَ وَنَقْضِي لَيْلَتَنَا فِيهَا. فَأَجَابَهُ سَيِّدُهُ: لا، لَنْ نَدْخُلَ مَدِينَةً غَرِيبَةً لاَ يُقِيمُ فِيهَا إِسْرَائِيلِيٌّ وَاحِدٌ، بَلْ لِنَعْبُرْ إِلَى...جِبْعَةَ بَنْيَامِينَ"([6]).

واضح من هذه النصوص التوراتية بأن يبوس (أورشليم) لليبوسيين وهي مدينتهم. وقد ورد ذكر العرب اليبوسيين في التوراة على أنهم من ولد كنعان الذي عدّته التوراة ابنا لحام بن سام بن نوحu ـ حسب زعمهم ـ وفي هذا يقول النص التوراتي: "وَأَنْجَبَ كَنْعَانُ صِيدُونَ ابْنَهُ الْبِكْرَ ثُمَّ حِثّا، وَمِنْهُ تَحَدَّرَتْ قَبَائِلُ الْيَبُوسِيِّينَ وَالأَمُورِيِّينَ وَالْجِرْجَاشِيِّينَ... وَبَعْدَ ذَلِكَ انْتَشَرَتِ الْقَبَائِلُ الْكَنْعَانِيَّةُ... كَانَ هَؤُلاَءِ هُمُ الْمُنْحَدِرُونَ مِنْ حَامٍ"([7]). وذكرتهم التوراة باسم فلسطينيين كذلك: "وَيْلٌ لَكُمْ يَا أَهْلَ سَاحِلِ الْبَحْرِ... يَاسُكَّانَ كَنْعَانَ أَرْضِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ. سَأُدَمِّرُكِ حَتَّى لاَ يَبْقَى فِيكِ مُقِيمٌ"([8]).

ومتابعة لأسماء القدس أقول سميت أيضا إيلياء وبيت المقدس، وهي مدينة قديمة جليلة على جبل يصعد إليها من كل جانب، وهي طويلة من المغرب إلى المشرق([9]).

وقد فتحت هذه المدينة في عهد الخليفة الثاني، عمرt سنة 15هـ. وقيل: 16هـ، بعد طول محاصرة([10]).

احتلها اليهود عام 1967م كما هو معلوم، وهي ما يُسمى في أيامنا بالقدس الشرقية، أو القديمة، أو القدس التاريخية.

المبحث الأول: قداسة القدس من منظور قرآني

ـ القدس في اللغة

القُدُس والقُدْس: بضم الدال وسكونها اسم ومصدر، ومنه قيل للجنَّة: حَظِيرة القُدْس. والتَقْدِيس: التَّطْهِير والتَّبْريك، وتَقَدَّس: أَي تطهَّر. وهذا المعنى اللغوي وارد في القرآن الكريم، في قوله تعالى على لسان الملائكة: )ونحن نُسَبِّحُ بحمدك ونُقَدِّس لك(، وكذلك جاء في السنة المطهرة، فعن أبي سعيد الخدريt عن رسول اللهr: لَا قُدِّسَتْ أُمَّةٌ لَا يَأْخُذُ الضَّعِيفُ فِيهَا حَقَّهُ غَيْرَ مُتَعْتَعٍ([11]).

وعلى هذا الأساس سميت القدس قديما: بيت المَقْدِس: أَي البيت المُطَّهَّر المبارك،وبمعنى آخر: المكان الذي يُتطهَّر به من الذنوب. ويقال لمن سكن بيت المقدس: مَقْدِسِيّ ومُقَدَّسِيٌّ([12]).

إلا أن كلمة: مقدس ومطهر، أقرب إلى الألفاظ الشرعية؛ لأن من كان بغير شرع سماوي لا يعرف معنى للتقديس! وهذا ما جعل ابن فارس يظن بهذه الكلمة بأنها من الكلام الشرعي الإسلامي([13]).

ـ القدس في المصطلح

جاءت مادة: (قدس) في القرآن الكريم بأوزان عدة، لا تخرج في مجملها عن الطهر والتنزيه، ومن ذلك: )القُدّوس(: اسم من أسمائه سبحانه، بمعنى: الطاهر المنزَّه عن العُيوب. وفُعّول: من أبْنِية المبالغة، وقد تكرر هذا الاسم في القرآن الكريم ومنه: )قل نزله روح القدس(: يعنى به جبريل من حيث إنه ينزل بالقدس من الله؛ أي بما يطهر به نفوسنا من القرآن والحكمة والفيض الإلهي.

والبيت المقدس: هو المطهر من نجاسة الشرك، وكذلك الأرض المقدسة، قال تعالى: )يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(([14]).

وقد تكرر ذكر التقديس في الحديث بمعنى التطهير، ومنه: "إن رُوحَ القُدُس نَفَث في رُوعي"([15]): يعني جبريلu؛ لأنه خُلِق من طَهارة([16]). ومنه الحديث السابق في المعنى اللغوي. وبالتالي لا أرى اختلافا في المشهور من معنى: (قدس) بين المعنى اللغوي والشرعي.

قداسة القدس من منظور قرآني

الآيات التي تعرضت لبيت المقدس (القدس) كثيرة([17])، إلا أنني سأتحدث عن تلك التي خصّت هذه البقعة من الأرض بالقداسة، وهذه الآيات سأقسمها إلى قسمين:

الأول: ما كان في تقديس القدس بشكل عام. والثاني: ما خصّ المسجد الأقصى.

أولا: قداسة القدْس بشكل عام

  نجد في القرآن الكريم خمس آيات تعرضت لقداسة القدس بشكل عام هي:

1- قوله تعالى على لسان موسىu: )يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ(([18]).

وفي تحديد الأرض المقدسة هنا قيل: هي الطور وما حوله. ورجح ابن كثير أنها: بيت المقدس([19]). وبهذا قال الزمخشري([20]). وروى القرطبي والشوكاني عن قتادة أنها: الشام. وقال الزجاج: دمشق وفلسطين وبعض الأردن([21]). وهو "قول الفراء كذلك. وقال الكلبي: الأرض المقدسة: الشام، منه، وبيت المقدس من ذلك أيضا"([22]).

وقد ذكر الطبري الخلاف في الأرض المقدسة ثم قال: وأولى الأقوال في ذلك بالصواب أن يقال: هي: (الأرض المقدسة)، كما قال نبي الله موسىu؛ لأن القول في ذلك بأنها أرض دون أرض، لا تدرك حقيقة صحته إلا بالخبر، ولا خبر بذلك يجوز قطع الشهادة به، غير أنها لن تخرج من أن تكون من الأرض التي ما بين الفرات وعريش مصر؛ لإجماع جميع أهل التأويل والسير والعلماء بالأخبار على ذلك([23]).

وواضح من قول الطبري أنه وسّع المنطقة حتى شملت كل الأقوال السابقة، ولكن يفهم أيضا من قول الطبري والأقوال الأخرى أن الأرض لم تكن جميع بلاد الشام، كما أن مصر لم تكن من تلك الأرض؛ لأن خطاب موسىu لقومه كان بعد خروجه من مصر متجهًا إلى بلاد الشام. ولا شك أن بلاد الشام مباركة فهذا ثابت في حديث الرسولr: عن أبي الدرداء قال: قال رسول اللهr: "بينا أنا نائم رأيت عمود الكتاب احتمل من تحت رأسي فظننت أنه مذهوب به، فأتبعته بصري، فعُمد به إلى الشام. ألا وإن الإيمان حين تقع الفتن بالشام"(([24].

وللبخاري أن النبيr قال: "اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يَمَننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: وفي نجدنا؟ قال: اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا، قالوا: يا رسول الله، وفي نجدنا؟ فأظنه قال في الثالثة: هنالك الزلازل والفتن، ومنها يطلع قرن الشيطان"(([25].

وخير ما نعتمد عليه في استيضاح وتحديد الأرض المقدسة هو القرآن الكريم؛ إذ تفسير القرآن بالقرآن هو الأولى إن أمكن ذلك، وقد وجدت في آية أخرى نوعا من التعريف بالأرض المقدسة هنا، وذلك في قوله تعالى: ] وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ([26]) فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ[([27]). والقرية هنا في قول الجمهور: مدينة القدس؛ يعني: بيت المقدس(([28]. وهي – والله أعلم –: الأرض المقدسة الواردة في الآية السابقة. والذي جعلني أفسر تلك الآية بهذه الآية:

        أ‌-   إن كلتا الآيتين قبل دخول الأرض المقدسة أو القرية.

      ب‌-الأمر بالدخول في كلتا الآيتين.

   ت‌-الآية التي فيها ذكر الأرض المقدسة كانت قبل التيه مباشرة، كما هو واضح من الآيات التي ذكرت بعدها. والآية التي فيها دخول القرية بعد التيه مباشرة، كما هو في الآية التي قبلها؛ لأن تظليل الغمام والمن والسلوى كل هذا كان في التيه.

إذًا ما بين الآيتين ـ بالنسبة لبني إسرائيل ـ 40 سنة هي مدّة التيه. تم بعدها جددت الدعوة إلى جهاد الجبارين(([29]، ودخول الأرض المقدسة التي سميت بعد ذلك بـ: (القرية). وتم دخول تلك الأرض بعد الآية الثانية التي ذكرتها بلفظ: (قرية). وليس بعد الآية الأولى التي ذكرتها بلفظ: (الأرض المقدسة). والدليل على ذلك الآية التالية للآية التي ذكرت فيها: (القرية) وهي قوله تعالى: ]فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ[([30]).

إذًا تم الدخول ولكن مع تحريف كلام الله الذي قاله لهم. وقد بينت السنة النبوية هذا التحريف: عن أبي هريرةt، عن النبيr قال: "قيل لبني إسرائيل: ادخلوا الباب سجدًا، وقولوا حطة، فبدلوا، فدخلوا يزحفون على أستاههم، وقالوا: حبة في شعرة"([31]).

والذي أريد أن أصل إليه من وراء هذا، هو أن الأرض المقدسة التي كتبها الله لهم، وأمرهم بدخولها، ليست كل بلاد الشام، بل ولا كل فلسطين، وإنما هي قرية من قرى فلسطين؛ لأن معنى: (قرية) في الآية السابقة: بيت المقدس عند جمهور المفسرين([32]). ومما يدل على هذا المعنى كذلك أن الله أمرهم بقول: (حطّة)؛ وأحد أبواب بيت المقدس يسمى: (باب حطة) إلى يومنا هذا.

2- قال تعالى: ]وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ[([33]) وقد رجح الطبري أن المراد بالأرض في هذه الآية: بلاد الشام([34]). وقال القرطبي: الظاهر أنهم ورثوا أرض القبط، فالأرض: هي أرض الشام ومصر. ومشارقها ومغاربها: جهات الشرق والغرب بها([35]). وقال الزمخشري: أرض مصر والشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة والعمالقة، وتصرفوا كيف شاؤوا في أطرافها ونواحيها الشرقية والغربية([36]).

وقال الطبري: إنها الشام؛ لأن الله بارك فيها. وفسّر الطبري قوله تعالى: ]وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى[: بالنصر على فرعون ووراثة أرضه. وأما الكلمة المذكورة في الآية، والتي تمت على بني إسرائيل فهي قوله تعالى: ]وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ. وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ[([37])"([38]).

ولا يهم الترجيح بين الآراء هنا؛ لأن كل الآراء تدخل فيها قداسة القدس؛ فهي ضمن الأرض المذكورة في كل الأقوال، وبالتالي بركتها ثابتة بالآية الكريمة.

3- قال تعالى في نجاة إبراهيم ولوط ـ عليهما السلام ـ: )وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ(([39]). وقد أورد الطبري رواية عن ابن إسحاق أن إبراهيمu نزل في فلسطين، ولوطاu بالمؤتفكة وبينهما مسيرة يوم وليلة، ثم قال الطبري: لا خلاف بين جميع أهل العلم أن هجرة إبراهيم من العراق كانت إلى بلاد الشام، وبها كان مقامه أيام حياته([40]). وهو قول ابن كثير، والقرطبي، والشوكاني، والزمخشري([41]).

4- ذكر سبحانه ما خص به سليمانu من نعمه فقال: )وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ(([42]).

والأرض هنا: الشام؛ في قول الطبري، والقرطبي، وابن كثير([43]). وقال الرازي: بيت المقدس([44]). إذًا بيت المقدس مبارك فيه بإجماع هذه الأقوال.

5- قال تعالى في أهل سبأ:)وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آَمِنِينَ(([45]). والقرى التي بارك الله فيها في هذه الآية هي: الشام في قول: القرطبي، والطبري، والزمخشري، وابن كثير([46]).

ثانيا: قداسة المسجد الأقصى

في القرآن الكريم آية واحدة تعرضت لتقديس المسجد الأقصى على وجه الخصوص، وهي قوله سبحانه وتعالى: ]سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَه[(([47].

وقبل الخوض في تفسير الآية الكريمة أفضل التعريف بالمسجد الأقصى:

المسجد الأقصى مع حرمه يشمل مسجد قبة الصخرة وما حولها من منشآت، حتى الأسوار. وطول أضلاع الحرم: من الجهة الغربية: 490 مترا، ومن الجهة الشرقية: 474 مترا، ومن الشمال: 321 مترا، ومن الجنوب: 283 مترا. وتبلغ مساحة المسجد الأقصى من الداخل: 4400 متر، طوله 80 مترا وعرضه 55 مترا، عدد أعمدته 53 عمودًا، و49سارية. وسقفه من الخشب. وللمسجد أحد عشر بابًا، وباب حطّة من أقدم أبواب الحرم الشريف(([48].

وأما سبب تسميته بالأقصى فأكثر المفسرين عزوا ذلك لكونه الأبعد ـ لمن قصد زيارته ـ عن المسجد الحرام في ذلك الوقت([49]).

ـ وأما قصة الإسراء المذكورة في الآية الكريمة فقد قال ابن عبد البر وغيره من أئمة النقل: إن الإسراء كان مرة واحدة بمكة بعد البعثة، قبل الهجرة بسنة، وقيل بسنة وشهرين وقيل: أربعة([50])، إلى المسجد الأقصى، ثم عُرج به إلى السماء.

وقد ثبت هذا في السنة المطهرة، ففي صحيح مسلم عن أنسt أن رسول اللهr قال: "أُتيتُ بالبراق - وهو دابة أبيضُ طويل، فوق الحمار، ودون البغل - يضع حافِرَه عند منتهى طرفه، قال: فركبته حتى أتيتُ بيتَ المقدس، قال: فربطته بالحلقةِ التي يَرْبِطُ بها الأنبياء، قال: ثم دخلت المسجد، فصليت فيه ركعتين، ثم خرجت، فجاءني جبريل بإناء من الخمر وإناء من اللبن، فاخترت اللبن، فقال جبريل: اخترت الفِطرة، قال: ثم عرج بنا إِلى السماء".

وفي رواية لمسلم أيضا: قال رسولُ اللهr: "لَقَد رَأيتُني في الحِجْرِ، وَقُرَيشٌ تَسألُني عن مَسْرَايَ؟ فَسألَتْني عن أشياءَ من بَيتِ المقدس لم أُثبِتْهَا، فكُرِبْت كُرْبَة ما كُرِب مثلها قطُّ، قال: فَرَفَعهُ الله لي، أنْظرُ إليه، ما يَسألُوني عن شيءٍ إِلا أَنْبَأتُهم بِهِ، ولقد رَأيتُني في جماعةٍ من الأنبياء، فإذا موسى قائم يصلي، فإذا رجل ضَرْبٌ جَعْدٌ كأنَّه من رجال شَنُوءةَ، وإذا عيسى بنُ مريمَ قائم يُصلِّي، أقرب الناسِ به شَبها عُروَةُ بنُ مسعودٍ الثقفيُّ، وإذا إبراهيمu قائم يُصلِّي، أَشْبهُ النَّاسِ به: صَاحِبُكم - يعني نَفسَهُ - فَحَانَتِ الصلاةُ فَأَمَمتُهُم، فَلمَّا فَرَغْتُ من الصلاةِ قال قائلٌ: يا مُحَمَّدُ هذا مالكٌ خَازِنُ النَّارِ، فَسَلِّمْ عليه، فَالتَفَتُّ إليه، فَبَدَأني بالسلام"(([51].

 ومن الملاحظ في الحديث أنهr مع أنه صلى إماما بالأنبياء إلا أنه لم يذكر منهم بالاسم إلا إبراهيم و موسى وعيسى ـ عليهم السلام ـ، وفي هذا إشارة إلى الديانات السماوية الثلاث الموجودة، وحسم الخلاف بينها لصالح الرسالة الخاتمة المتمثلة برسالة إمامهم في صلاتهم هذه، محمدr وأمة الإسلام، وهو الأشبه بأبي الأنبياء إبراهيمu.

- وكذلك من فضل المسجد الأقصى أن الدجال يمتنع منه كما ثبت عن رسول اللهr حيث قال عن الدجال: "لا يأتي أربعة مساجد: الكعبة، ومسجد الرسولr، والمسجد الأقصى، والطور"(([52].

- وتعظيم المسجد الأقصى واستحباب السفر إليه للتعبد بصلاة، أو ذكر، أو اعتكاف، أو غير ذلك من العبادات المشروعة، أمر متفق عليه بين العلماء(([53]. وقد استدلوا بحديث الرسولr، عن أبي هريرةt، أنَّ النبيr قال: "لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلا إلى ثَلاثَةِ مَساجِدَ: المسجدِ الحرامِ، ومسجدِ الرَّسُولِ، ومَسجِدِ الأقْصَى"(([54]. والمقصود: لا يسافر بنية العبادة إلا إلى هذه المساجد الثلاثة، تعظيما لشأنها وتشريفا. قال ابن حجر: وفي هذا الحديث فضيلة هذه المساجد، ومزيتها على غيرها؛ لكونها مساجد الأنبياء؛ ولأن الأول: قبلة الناس وإليه حجهم، والثاني: أسس على التقوى، والثالث: كان قبلة الأمم السالفة(([55].

ويلاحظ مما سبق أن الإسلام ربط بين المسجد الحرام والمسجد الأقصى بعدة روابط:

1- بالتسمية: فاسم الأول: المسجد الحرام، والثاني: الأقصى؛ بمعنى: الأبعد عن المسجد الحرام، فلا يفهم معنى المسجد الأقصى إلا إذا ذكرنا بُعده عن المسجد الحرام!

2- بالإسراء: حيث كان من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى كما ذكرت سابقا.

3- بشد الرحال إليهما للتعبد.

4- بعدم استطاعة الدجال الاقتراب منهما.

5- بكونهما قبلة: فكان الأقصى القبلة الأولى، ونسخت، بالتوجه إلى المسجد الحرام.

- والمسجد الأقصى إسلامي بني قبل سليمانu

 إذ هو ثاني بيت وضع للعبادة على هذا الكوكب، بعد الكعبة التي رفع قواعدها إبراهيمu. فعن أبي ذرt قال: سألت رسول اللهr عن أول بيت وضع في الأرض؟ فقال: "المسجد الحرام. قلت: ثم أي؟ قال: المسجد الأقصى. قلت: كم كان بينهما؟ قال: أربعون عاما"([56]). وقد يشكل هذا مع رواية أخرى:

عن عبد الله بن عمرو بن العاص - رضي الله عنهما -: عن رسولِ اللهr: "أَن سليمان لما بَنى بيتَ المقدس سأل الله عز وجلَّ خِلالا ثلاثة: سأل الله عزَّ وجلَّ حُكْما يُصادِفُ حكمه، فأُوتيه، وسأل الله عز وجل مُلْكا لا ينبغي لأحد من بعدِهِ، فأُوتيه، وسأل الله عز وجلّ - حين فرغ من بناء المسجد - أن لا يأتِيَهُ أحد لا يَنْهَزُه إِلا الصلاةُ فيه: أن يُخرِجَه من خطيئته كيومَ ولدته أُمُّه"([57]).

قال ابن القيم: وقد يفهم من الكلام السابق أن سليمانu بنى المسجد الأقصى، وهذا غير صحيح؛ لأن بين سليمان وإبراهيم ـ عليهما السّلام ـ أكثر من 1000عام. فما فعله سليمان مجرد تجديد البناء القديم لا تأسيسه، والذي أسسه هو يعقوب بن إسحاقu بعد بناء إبراهيم الكعبة بهذا المقدار([58]).

ويبدو لي أن بناء الأقصى المذكور في الحديث الشريف غير ما ذهب إليه ابن القيم، إذ الكلام هنا عن بناء البيت الحرام والمسجد الأقصى في المرة الأولى كما هو واضح من لفظه: (في الأرض)، وبالتالي فكلا المسجدين بني قبْل إبراهيمu([59]) وفي القرآن الكريم ما يدل على أن بناء إبراهيم للبيت الحرام، كان مجردة رفع قواعد وليس تأسيسا، قال تعالى: )وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ(([60])، وهذا المعنى واضح في قوله تعالى: )رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ(([61]).

فهذه الآية تتحدث عن دعاء إبراهيمu عندما وضع زوجته هاجر في مكة المكرمة، مع ولده إسماعيلu وهو يقول بوضوح في هذه الآية إنه وضع هاجر في مكة عند بيته المحرم! أي إن البيت كان موجودا قبْل إبراهيمu وقبل إسماعيلu؛ لأنه عندما رفع قواعده إبراهيم وإسماعيل ـ عليهما السلام ـ كان قدر درس قبل زمن طويل، والذي أريد أن أصل إليه هو أن بناء بيت المقدس كان بعد بناء البيت المحرم بأربعين سنة؛ أي إن كليهما بني قبل إبراهيمu، فمن باب أولى قبل يعقوب وإسحاق وسليمان ـ عليهم السلام ـ!

- أما بركة بلاد الشام المذكورة في هذه الآيات

 فمن الجانب اللغوي: كلمة: (بركة): أحرفها الثلاثة: الباء والراء والكاف: تفيد معنى الثبات، وقال الخليل: البركة: من الزيادة، والنماء([62]). وما قاله الخليل هو المتناسب مع الآية الكريمة، والبركة لها جانبان: معنوية، وحسية:

فالبركة المعنوية: يمثل لها بكثرة ما بعث في بلاد الشام من الأنبياء، فانتشرت في العالمين شرائعهم، وآثارهم الدينية؛ وهي البركات الحقيقية"([63]).

والبركة الحسية: بكثرة الماء، والشجر، والثمر، والخصب، وطيب العيش. ومعلوم أن بلاد الشام وعلى الأخص فلسطين، تتمتع بهذا النوع من البركة والخير([64]).

ثالثا: قبة الصخرة

تقع الصخرة في الحرم القدسي الشريف، ولشرفها سارع الخليفة الثاني عمر بن الخطابt بعد فتح القدس إلى تنظيفها من الزبالة التي كانت النصارى ألقتها عليها لتغيظ اليهود الذين يعظمونها ويصلون إليها، فبادر عمرt إلى تنظيفها بنفسه، مع من ساعده من الصحابة رضوان الله عليهم.

يبلغ طول الصخرة من الشمال إلى الجنوب: 17.70م، وعرضها من الشرق إلى الغرب: 13.50م. وسمكها 2م(([65].

وللصخرة منزلة خاصة في قلوب المسلمين. ويرى كثير من العلماء أن معراج الرسولr كان من فوقها. إلا أن هذا مجرد اجتهاد. يقول ابن القيم: وكل حديث في الصخرة فهو كذب مفترى، والقَدَمُ الذي فيها كذب موضوع مما عملته أيدي المزوّرين الذين يروٍّجون لها ليكثر سواد الزائرين(([66].

وبالتالي ينبغي التفريق بين ما هو أثر إسلامي من حيث الملكية، وبين ما هو أثر إسلامي تعبدي، يؤجر الإنسان بزيارته، أو الصلاة عنده، أو غير ذلك من الشعائر؛ لأن التعبد يحتاج إلى دليل شرعي خاص به.

المبحث الثاني: قداسة القدس من منظور توراتي يهودي

نجد في التوراة المحرفة المعاصرة تقديسا لما يسمونه: أرض الميعاد (بلاد الشام)، على صيغة الإجمال والتفصيل، حيث إنهم يعدونها أرض الرب! جاء هذا المعنى في التوراة، عندما ذكرت غضب الربّ على إسرائيل([67]): "لَنْ تَظَلُّوا مُقِيمِينَ فِي أَرْضِ الرَّبِّ بَلْ يَرْجِعَ أَفْرَايِمُ إِلَى دِيَارِ مِصْرَ"(([68]. إلا أن الرب بعد ذلك يتنازل ليهوذا عن الأرض، ويكتفي بأورشليم (القدس)، ففي سفر زكريا: "والرب يرثُ يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد"([69]).

وكذلك ورد عند اليهود تقديس تفصيلي لبعض الأماكن مثل: جبل صهيون، والهيكل، وحائط المبكى. ولإلقاء الضوء على هذه الأمكنة المقدسة عندهم أقول:

قداسة القدس بشكل عام عند اليهود

مر معنا آنفا نص توراتي: "والرب يرثُ يهوذا نصيبه في الأرض المقدسة ويختار أورشليم بعد"([70]). ويتضح من هذا النص أن للقدس شأوا عظيما لديهم؛ لأنها مسكن ربهم! وكذلك ورد تقديس القدس، وصهيون في سفر يوئيل: "يَزْأَرُ الرَّبُّ فِي صِهْيَوْنَ، وَيُجَلْجِلُ بِصَوْتِهِ مِنْ أُورُشَلِيمَ فَتَرْجُفُ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ... فَتُدْرِكُونَ أَنِّي أَنَا هُوَ الرَّبُّ إِلَهُكُمُ السَّاكِنُ فِي صِهْيَوْنَ جَبَلِي الْمُقَدَّسِ، وَتَكُونُ أُورُشَلِيمُ مُقَدَّسَةً وَلاَ يَجْتَازُ فِيهَا الْغُرَبَاءُ أَبَداً"([71]).

والذي قوى الجانب العقدي عند اليهود لمدينة القدس هو بناء النبي سليمانu للهيكل – حسب التصور اليهودي-، وبخاصة أن هذا الهيكل أو المعبد ـ حسب عقائدهم ـ هو المكان الوحيد الذي يسكن فيه الرب!

وقد بلغ الغلو في تقديس القدس إلى درجة أن غفران الذنوب لبني إسرائيل يكون بمجرد أن يسكنوا فيها! ففي التوراة: "انظر صهيون مدينة أعيادنا. عيناك تريان أورشليم مسكنا مطمئنا… الشعب الساكن فيها مغفور الإثم"([72]).

- قداسة صهيون عند اليهود

 صِهيون: هي الروم. وقيل: هي بيت المقدس(([73]. ونقل ابن تيمية عن النصارى: صهيون: هي أورشليم(([74]. وقال الفيروز آبادي: صِهيون: بيت المقدس، أو موضع به، أو الروم. إلا أن صاحب معجم البلدان جزم بأن صهيون جزءا من القدس وليس كلها فقال: قلت: فهو موضع معروف بالبيت المقدس محلة فيها كنيسة صهيون(([75].

وفرّق في معجم ما استعجم بين: صَهيون بالفتح، و صِهيون بالكسر فقال: صِهيون، بكسر أوله و إسكان ثانيه بعده الياء أخت الواو: وهو اسم لبيت المقدس. وكذلك إيليا وشلم... وأما صَهيون: بفتح الصاد فاسم قبيلة(([76].

ويبدو أن كون صهيون اسم قبيلة أو مكان. أو مكان اشتهرت به القبيلة، أو اشتهر بها هو المعمول به والسائد. وعلى هذا الأساس نسب بعض العلماء المسلمين إلى صهيون، فنجد مثلا في كتاب الوفيات ترجمات لبعض العلماء:

ـ وفي ليلة الثلاثاء العشرين من الشهر، توفي المعدل شمس الدين أبو عبد الله محمد بن إبراهيم بن علي بن خضر الصهيوني الدمشقي بها.

ـ وفي يوم الخميس… توفي المعدل شهاب الدين أبو العباس أحمد بن إبراهيم بن علي بن خضر الصهيوني ثم الدمشقي بها، ودفن بمقبرة الباب الصغير.

ـ توفي أبو الحسن علي بن إبراهيم بن خضر الصهيوني الدمشقي بها(([77].

ويبدوا أن قول القرطبي هو الأقرب لما هو من معارف اليوم، حيث بين أن صهيون هو جبل فقال: صهيون: الجبل بلسانهم(([78].

وهذا متفق مع التوراة: "والرب من صهيون يزمجر...أنا الرب إلهكم ساكنا في صهيون جبل قدسي"([79]). وهذه غاية القداسة لهذا الجبل، ولهذا السبب تنسب له الحركة الصهيونية([80]) اليوم.

- قداسة الهيكل عند اليهود

 الهيكل: لفظ يفيد التقديس لبيوت العبادة في أكثر من دين، وليست التسمية خاصة باليهود! قال ابن منظور: الهيكل: الضخم من كل شيء، والهيكل: بيت للنصارى فيه صنم على خلْقة مريم وعيسى ـ عليهما السلام ـ، و الهيكل: البناء المشرف، والهيكل: بيت الأصنام(([81].

وقال القرطبي: قال الكلبي ومقاتل بن سليمان ـ يزيد أحدهما وينقص ـ: سبب الفيل ما روي أن فتية من قريش خرجوا تجارا إلى أرض النجاشي، فنزلوا على ساحل البحر إلى بيعة للنصارى تسميها النصارى الهيكل، فأوقدوا نارا لطعامهم وتركوها وارتحلوا، فهبت ريح عاصف على النار فأضرمت البيعة نارا فاحترقت، فأتى الصريخ إلى النجاشي فأخبره(([82].

و قال أبو الفرج: ومن ديارات بني علقمة بالحيرة دير حنظلة بن عبد المسيح بن علقمة بن مالك بن ربى بن نمارة بن لخم، وجد في صدر الدير مكتوب بالرصاص في ساج محفور: بنى هذا الهيكل المقدس محبة لولاية الحق والأمانة حنظلة بن عبد المسيح (([83].

وأما اليهود اليوم فيعتقدون أن الله أمر موسىu بإقامة خيمة الاجتماع في سيناء لعبادته، وقد حدد الله لموسى أوصاف خيمة الاجتماع ومقاييسها، كما أورد بيانا مفصلا بمحتوياتها(([84]. ففي التوراة: "وكلّم الرب موسى قائلا. كلم بني إسرائيل أن يأخذوا لي تقدمة...فيصنعون لي مقْدِسا لأسكن في وسطهم. بحسب جميع ما أنا أريك من مثال المسكن ومثال جميع آنيته هكذا تصنعون"(([85]. وصارت هذه الخيمة سكنا للرب وهي ما سمّوه هيكلا بعد ذلك.

ثم مات بعد ذلك موسى وبقيت هذه الخيمة متنقلة مع بني إسرائيل في فلسطين (أرض كنعان) قريب الـ 400 سنة، إلى أن أتم سليمان بناء الهيكل في القدس نقل الخيمة مع كل ما فيها إلى الهيكل الجديد. هذا ما تقصه التوراة: "في السنة الرابعة لملك سليمان على إسرائيل... بنى البيت للرب...وأصعدوا تابوت الرب وخيمة الاجتماع مع جميع آنية القدس التي في الخيمة... وأدخل الكهنة تابوت عهد الربّ إلى مكانه في محراب البيت في قدس الأقداس"(([86].

وهكذا ينتقل الرب معهم ليسكن في بيته الجديد (الهيكل) كما تقول التوراة: "حينئذ تكلّم سليمان: قال الربُ إنه يسكن في الضباب. إني بنيتُ لك بيتَ سكنى مكانا لسكناك إلى الأبد"(([87]. وتذكر التوراة أن أول تدمير للهيكل على يد ملك مصر شيشق بعد سليمان(([88].

كما دمر بختنصر كذلك القدس والهيكل عام 586 ق.م، وأخذ من بقي حيا من اليهود سبيا إلى بابل، وتقول التوراة: إن الملك كورش ملك فارس بعد أن تغلب على الآشوريين أعاد اليهود إلى فلسطين مع عزرا (كاتب شريعة الرب كما تسميه التوراة) وسمح لهم ببناء الهيكل(([89].

وقد نص القرآن على ما أصاب اليهود من دمار مهلك وفظيع عبر تاريخهم الطويل الأسود بسبب كثرة معاصيهم، وقتلهم الأنبياء، وكفرهم، وسوء أخلاقهم، كما يفهم من الآية الآتية تدمير بيت عبادتهم مرتين. قال تعالى:

]وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إسْرائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا. فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولا. ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمْ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا. إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُئوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا([90])[. وبغض النظر عمن دمّر عروش اليهود في المرتين ـ نظرا لاختلاف المفسرين في ذلك ـ إلا أن هذه الآيات تحدثت عن دمار فظيع مسّ وأصاب اليهود عبر تاريخهم الطويل.

وكذلك الإنجيل([91]) يذكر لنا أن اليهود لم يكونوا أهل تعبد وطهارة، فسرعان ما هجروا العبادة وحولوا الهيكل للتجارة وغيرها: "ودخل يسوع إلى هيكل الله وأخرج جميع الذين كانوا يبيعون ويشترون في الهيكل وقلب موائد الصيارفة وكراسي باعة الحمَام. وقال لهم: مكتوب بيتي بيت الصلاة يدعى وأنتم جعلتموه مغارة لصوص"(([92].

وفي الإنجيل تنبأ عيسىu بهدم الهيكل ودماره تماما بحيث يقتلع من جذوره بسبب سوء أخلاق اليهود: "ثم خرج يسوع ومضى من الهيكل...فقال... الحق أقول لكم إنه لايترك ههنا حجر على حجر لا يُنقض"(([93].

وقد زال أثر المعبد أو الهيكل تماما وتحققت نبوءة عيسىu سنة 70م على يد القائد الرماني تيطس، عندما ثار اليهود على الرومان في فلسطين، وأثناء ثورتهم أحرقوا معبدا لإله الرومان الأكبر: (جوبيتر كابيتو لينوس) فهاجمهم الرومان وسقطت أورشليم. وفرض الرومان ضريبة على اليهود خصص عائدها للإله جوبيتر ومعبده عقابا لليهود(([94].

والآن اليهود ـ الصهاينة على وجه الخصوص ـ يريدون إعادة بناء هذا الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى. وتجد الآن في الكيان الصهيوني في فلسطين أكثر من 25جماعة متخصصة في هدم المسجد الأقصى، وبناء الهيكل على أنقاضه(([95].

- قداسة حائط المبكى عند اليهود

من آخر بدع اليهود في صناعة العقائد، واختراع المقدسات هو ما يدّعونه من تقديس ما يسمونه: (حائط المبكى)، وهو عند المسلمين: حائط البراق.

ويمكن أن نُعرّف هذا الحائط بأنه: الحائط الغربي للحرم الشريف في المسجد الأقصى في القُدْس. وهو عبارة عن جدار بطول: 30م، وارتفاع: 20م. ويمتد تجاه ذلك الجزء من الحائط رصيف بعرض 4م. وعلى مسافة قصيرة من الرصيف في الجهة الجنوبية منه يوجد داخل الحائط تجويف غائر وهو المكان المعروف لدى المسلمين بأن الرسول محمدr ربط بُراقه فيه ليلة المعراج([96])، ولهذا السبب أصبح كل هذا الحائط يعرف بالبراق أو حائط البراق.

و يزعم اليهود أن الحائط يشكل جزءا من السور الخارجي لهيكل سليمانu الذي بناه ملكهم هيرودس بعد خراب الهيكل الأول. ويعدونه من الأمكنة المقدسة، ويحجُّون إليه من جميع أنحاء العالم. وسمي بـ: حائط المبكى، وبالعبرية: (كوتل معرافي)؛ لأن الصلوات حوله يصاحبها النواح والعويل على تفريطهم بهيكلهم ودماره(([97].

ونظرا لكثرة الصدامات بسبب الحائط بين اليهود والمسلمين، شكلت في كانون الأول عام: 1930م الحكومة البريطانية المنتدبة لجنة دولية، للحكم في النزاع بين المسلمين واليهود في ملكية حائط البراق، وقد عرض الجانب اليهودي على اللجنة 35 وثيقة ومستندا، مقابل 26 وثيقة من العرب المسلمين.

 وفي ديسمبر (كانون الأول) من عام:1930م، أعلنت اللجنة قراراتها، ورفعتها إلى عصبة الأمم وحكومة الانتداب البريطاني، وكانت على الشكل الآتي في مجملها:

1- للمسلمين وحدهم تعود ملكية الحائط الغربي، ولهم وحدهم الحق العيني فيه؛ لكونه يؤلف جزءا لا يتجزأ من ساحة الحرم الشريف، التي هي من أملاك الوقف.

2- وإن أدوات العبادة وغيرها من الأدوات التي يحق لليهود وضعها بالقرب من الحائط بالاتفاق بين الطرفين، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن تعتبر، أو أن يكون من شأنها إنشاء أي حق عيني لليهود في الحائط، أو في الرصيف المجاور له.

3- ويُمنع اليهود من جلب المقاعد والسجاجيد والحصر والكراسي والستائر والدواب لقرب الحائط.

4- ولا يسمَح لليهود بنفخ البوق بالقرب من الحائط.

5- لليهود حرية السلوك إلى الحائط الغربي لإقامة التضرعات في جميع الأوقات.

6- ومن حق المسلمين وواجبهم تنظيف الرصيف المقابل للحائط وإصلاحه، متى كان ذلك ضروريا(([98].

وكما أسلفت لا يوجد دليل أيا كان نوعه على أن هذا الحائط هو جزء من هيكل سليمان المزعوم. والمسلمون يسمون هذا الحائط: (حائط البراق)؛ وهم على قول من قال من العلماء أن الرسولr ربط فيه البراق في الإسراء والمعراج. وقد سبق الحديث عن رسول اللهr في هذه المسألة عند حديثي عن قداسة المسجد الأقصى.

ولما كان حائط البراق جزءا من الحرم الشريف يعدّ وقفا من المرتبة الأولى التي توقف على المساجد، بمعنى: لا يجوز الرجوع فيه بتاتا؛ لأنه صار حقا لله خالصا؛ لأن المساجد له سبحانه وتعالى(([99].

المبحث الثالث: مقارنة بين قداسة القدس في القرآن والتوراة

سأكتفي في هذا المقام بذكر ثلاث نقاط في هذه المقارنة:

الأولى: في سكنى الإله

فقد جعل اليهود من الأرض مسكنا للإله! حيث سكن في القدس أو في الهيكل بشكل خاص. وهذا طرح يأباه العقل السليم؛ إذ الإله في عقيدتنا وفي عقيدة اليهود هو الخالق للأرض وغيرها، وبغض النظر عن تأويلاتهم لهذا الكلام، فلا يليق إطلاق هذه الألفاظ أو الصفات عليه سبحانه.

وقد نزّه القرآنُ اللهَ عن كل هذا حيث قال تعالى: ]لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ[([100]). فنفى أية مشابهة بينه وبين خلقه على الإطلاق. وقال مخبرا بغناه عن كل شيء: ]وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[([101]). ثم بين أنه مالك كل شيء فقال: ]وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا[([102]).

الثانية: فلسفة غفران الذنوب

وهو ما ظهر في عقيدتهم من أثر الأرض على أهلها، أو أن بقعا من الأرض تكون سببا لغفران الذنوب بمجرد السكنى فيها. وخارجها يُعدّ اليهودي كافرا عاصيا! ونقلت قولهم هذا عند حديثي عن عقيدتهم في قداسة بيت المقدس.

 وهذا خطأ فادح حتى من منظور التوراة نفسها؛ لأن التوراة تقر بوجود الكنعانيين واليبوسيين وغيرهم في القدس قبل اليهود، وتصفهم بالوثنية ومعلوم أن الشرك لا يغفره الله سبحانه لأحد.

والأصل في نجاة الإنسان من غضب ربه، أن يؤمن بالله ورسله وكتبه. بغض النظر عن مكان سكناه، وقد قال الله تعالى: ]وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ[([103]). وقال: ]إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ[([104]). فنفى الخوف عنهم أينما كانت سكناهم، طالما كانوا يعملون الصالحات بعد الإيمان.

وفي الحديث عن عثمان بن عفانt قال: سمعتُ رسولَ اللهr يقول: "رِباطُ يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل"(([105]. فدل هذا على أن العمل بالنسبة لحال الإنسان هو الأصل وليس المنزل، مهما كانت أحوال ذلك المنزل. وهذا ما كان عليه سلف الأمة، فعن يحيى بن سعيد: "إن أبا الدرداءِ كَتَبَ إِلى سَلْمانَ الفارسيِّ - رضي الله عنهما-: أن هَلُمَّ إِلى الأرضِ المقدَّسةِ. فكتبَ إِليه سلمانُ: إِنَّ الأرضَ لا تُقَدِّسُ أحدا، وإِنما يُقَدِّسُ الإِنسانَ عَملُهُ"(([106].

ويظهر من هذا أن أحسن الأراضي الأرض التي يكون الإنسان قادرا على طاعة الله فيها بشكل أكبر. فالأرض تتبع أهلها وليس العكس.

الثالثة: تناقض التوراة في تقديس القدس

هناك بعض التناقض في تقديس القدس، وغفران الذنوب لمن سكنها عند اليهود! ففي الوقت الذي يقدسونها ذلك التقديس، نجد بعض الذم لها ولهم ولبيت الرب (الهيكل) الذي يقدسونه في التوراة. ومن ذلك ما يروونه عن ربهم في حقهم عندما غضب على يهوذا: "فقال الرب إني أنزع يهوذا أيضا من أمامي كما نزعت إسرائيل وأرفض هذه المدينة التي اخترتها أورشليم والبيت الذي قلت يكون اسمي فيه"([107]).

وأيضا يقول الرب: "من أجل أن مَنَسَّى ملك يهوذا فقد عمل هذه الأرجاس… قال الرب إله إسرائيل. هأنذا جالب شرا على أورشليم ويهوذا… وأمسح أورشليم كما يمسح واحد الصحن ويقلبه على وجهه"([108]). وكثيرا ما تذكر التوراة عبادتهم الأوثان في الأرض المقدسة، وتخريبها بأيديهم وغضب الله عليهم([109]).

بل حدثتنا التوراة عن إلههم وهو يصف القدس أوصاف أحط الساقطات في الدعارة، المنحدرات في الرذيلة مما يخجل الإنسان منه، ولضرورة البحث اختصر نصا واحدا من هذا القبيل، يتحدث فيه الرب كيف أنه رأى أورشليم صغيرة، فرعاها إلى أن ظهرت عليها علامات البلوغ، فعقد بينه وبينها عهدا، وضمها لنفسه لكنها غدرت به وزنت بالقريب والبعيد:

"هَذَا مَا يُعْلِنُهُ السَّيِّدُ الرَّبُّ لأُورُشَلِيمَ: أَصْلُكِ وَمَوْلِدُكِ مِنْ أَرْضِ الْكَنْعَانِيِّينَ. أَبُوكِ أَمُورِيٌّ وَأُمُّكِ حِثِّيَّةٌ. فَنَمَيْتِ وَكَبُرْتِ وَبَلَغْتِ عُمْراً صِرْتِ فِيهِ أَجْمَلَ الْجَمِيلاَتِ، فَنَهَدَ ثَدْيَاكِ وَنَمَا شَعْرُكِ، وَلَكِنَّكِ كُنْتِ عَارِيَةً مُتَجَرِّدَةً. فَمَرَرْتُ بِكِ وَرَأَيْتُكِ وَإِذَا بِكِ قَدْ بَلَغْتِ سِنَّ الْحُبِّ، فَبَسَطْتُ عَلَيْكِ أَطْرَافَ ثَوْبِي، وَسَتَرْتُ عَوْرَتَكِ وَحَلَفْتُ لَكِ وَأَبْرَمْتُ مَعَكِ عَهْداً، فَصِرْتِ لِي، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ. ثُمَّ َطَيَّبْتُكِ بِالدُّهْنِ. وَزَيَّنْتُكِ بِالْحُلِيِّ، وَلَكِنَّكِ اعْتَمَدْتِ عَلَى جَمَالِكِ وَزَنَيْتِ اتِّكَالاً عَلَى شُهْرَتِكِ. أَغْدَقْتِ عَهَارَتَكِ عَلَى كُلِّ عَابِرِ سَبِيلٍ زِنًى لَمْ يَكُنْ لَهُ مَثِيلٌ وَلَنْ يَكُونَ. وَأَحْضَرْتِ مَا وَهَبْتُكِ مِنْ حُلِيِّ الْجَوَاهِرِ، مِنْ ذَهَبِي وَفِضَّتِي، فَصَنَعْتِ مِنْهَا تَمَاثِيلَ ذُكُورٍ وَزَنَيْتِ بِهَا"([110]).

ولعله فيما قاله عيسىu عنهم في الإنجيل يوضح أسباب غضب الله عليهم أكثر: "ويل لكم أيها الكتبة الفريسيون([111]) المراؤون لأنكم تغلقون ملكوت السماوات قدام الناس… وتأكلون بيوت الأرامل… ويل لكم أيها القادة العميان القائلون من حلف بالهيكل فليس بشيء ولكن من حلف بذهب الهيكل يلتزم… ويل لكم أيها الكتبة الفريسيون المراؤون لأنكم تنقون خارج الكأس والصحفة وهما من الداخل مملوآن اختطافا ودعارة… فأنتم تشهدون على أنفسكم أنكم أبناء قتلة الأنبياء… أيها الحيات أولاد الأفاعي كيف تهربون من دينونة جهنم. لذلك ها أنا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة فمنهم تقتلون وتصلبون ومنهم تجلدون… يا أورشليم يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين"([112]). ولعل لعن عيسىu هذا هو الذي أشار إليه القرآن الكريم: ]لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ. كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ[([113]).

وفي القرآن الكريم الكثير من مخازيهم: ]وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُو بِغَضَبٍ مِنْ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُون النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ[([114]). وعن علمائهم يقول تعالى: ]يَأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ[([115]). ]اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ[([116]). ]وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ. لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ[([117]).

والذي أراه من بعد مطالعة هذه النصوص التوراتية المتناقضة أن غضب الله على المدينة إنما قصد به الرب الساكنين فيها، فالأماكن تبع لأصحابها. و الرب إنما ذمّ المدينة بعد أن ذكر عيوب أهلها ونسب إليهم عمل الشّر معه ومع عباده.

وإن هذا التناقض بين نصوص تثبت المغفرة للعاصي بمجرد السكنى، وأخرى تثبت الغضب لمن عصى وإن كان في الأرض المقدسة، يدل دلالة واضحة على أن اليهود قد عبثوا بكتاب ربهم التوراة، وغيروها، فدخلها الخلل والتناقض، وهذا ما قاله سبحانه عنهم في القرآن الكريم: )فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ(([118]).

كما أن هذا التناسب العكسي بين طهارة المدينة وقدسيتها وبين الساكنين لا يمكن أن يكون أمرا عادلا، ولا بد من الإقرار بأن القاعدة التي يعتمد عليها اليهود، وهي أن هذه الأرض المقدسة لهذا الشعب المقدس([119])، لا تنطبق على اليهود اليوم؛ إذ ثبت بنصوص التوراة، والإنجيل، مما سبق ذكره، أنهم شعب الخبث والشرك والنجاسة الخلقية والسلوكية مع الله ومع عبيده. والشعب المقدس هو الذي قال الله فيه: ]كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ[([120]).

------------
الخاتمة

ظهر بحمد الله من خلال البحث أن القدس مدينة مقدسة في الديانة الإسلامية، وردت فيها آيات وأحاديث، وصفتها بالقداسة والبركة، وأن الأرض في المنظور الإسلامي كالأشخاص تكون دار إسلام إن حل فيها الإسلام، ودار كفر إن حل فيها الكفر، ودار حرب إن لم يكن معها اتفاق سلام. وفي كل الأحوال لا ينجو المذنب من ذنبه في المنظور القرآني، إلا بالتوبة والعمل الصالح، ولا تشفع له أرض مهما كان قدرها.

وأما الديانة اليهودية، فقد تبين فيها غلو في قداسة الأرض حتى قالوا: يغفر لساكنها، ويكفر من لا يهاجر إليها. إلا أن التوراة تناقضت في هذه المسألة، فكما ثبت هذا التقديس الغالي في التوراة، ثبت عكسه، بحيث يغضب الله على من عصى، وإن كان في الأرض المقدسة، بل ويغضب على الأرض تبعا لأهلها.

وهذا جعلنا نجزم تبعا للقرآن الكريم بتحريف اليهود لكتابهم التوارة، مما جعله متناقضا مع نفسه ومتناقضا مع العقل السوي.

كما تبين أن القدس مدينة عربية إسلامية مقدسة، لا يستحقها يهود اليوم، كفرة بني إسرائيل، كما ثبت معنا بالقرآن الكريم والتوراة.

وأن المسجد الأقصى بما فيه من حائط البراق الذي افترى تقديسه اليهود، إنما هو مسجد إسلامي مقدس بني قبل أن يصل بنو إسرائيل إلى فلسطين. والذي فعله سليمانu  كالذي فعله إبراهيمu في الكعبة المشرفة؛ إنما هو رفع القواعد فقط.

تم البحث بحمد الله