بنود الموقع
عضوية الموقع

احصائيات الموقع

عدد الزوار   
2538
عدد الصفحات   
54
عدد الزيارات   
800000


جديد الموقع: الفاضحة !!
جديد الموقع: عجبا رأيت !!
جديد الموقع: سَذاجَةُ فراشَة
جديد الموقع: عبرة لأولي النُّهى

الأبحاث العلمية

نظرة قرآنية في نظرية مالتوس السكانية

.
نشر بتاريخ الإثنين, 18 شباط/فبراير 2013 00:43

ملخـص البحـث

 

          درست في هذا البحث ما سُمّي بنظرية مالتوس السكانية وكانت بوادرها عام 1798م. أما جوهرها فهو أن موارد الطبيعة أقل بكثير من تزايد السكان مما يهدد أهل الكوكب بمستقبل مظلم بهيم. وقد بينت في هذا البحث خطأ هذه النظرية، وهو ما أثبته علماء كثر من قبل؛ ولكن الجديد هنا: النظرة القرآنية في هذا الردّ، وإحياء الردّ عليها؛ لأن الفكرة لا تزال متبناة عند كثير من الباحثين.

 

       وتبين من خلال هذا البحث أن نظرية مالتس كما أنها تناقضت مع العلم والواقع، فهي كذلك متناقضة مع القرآن الذي يُظهر أن نعم الله على هذا الكوكب لا تُعدّ ولا تحصى، وأن هذا كان منذ قديم الزمان، وأن التخلف الموجود فيما سُمّي بـ (العالم المتخلف) كان نتيجة من نتائج التخلف وليس سببا فيه كما يزعم مالتس، فإن الله سبحانه قد ملأ الكوكب بالخيرات، وطلب من الإنسان الاستفادة منها، وحسن توزيعها وحفظها؛ ولظروف استعمارية واجتماعية وتخلف علمي وعَقَدي ضعفت هذه الدول عن المهمة؛ فوقعت بما هي فيه من تخلف. ثم طرحتُ الحلول المؤيدة بالقرآن بجعل الإسلام المرجع لعلم الاقتصاد والسكان، والتنمية المستقلة ونفي التبعية وتحقيق العدالة الاجتماعية والمحافظة على موارد الطبيعة.

 

Koranic standpint In “Maltis Demographic Theory”

 

The Research Summary

 

In this reasearch, I’ve studied what they call it “Maltis Demographic Theory” that it’s indications came out in 1798. The essense of this theory Said that the nature resources are far less than the in creasing of population; and by the time it will threat the people living in this planet and will lead then in to a very dark future. I’ve  explained in this research the error of the theory, and this is in fact what had been proved before by a lot of scientists. But the new thing in this Koranic opinion, is that to repel and keep on the repulsion against this theory because of many researchers who are still adopting the idea of this theory.

And through this research, have demonstrated that Maltis Theory has contradicted the science and the reality, as well as it has contradicted the Koran which shows that the God Bounties on this planet (the one and the only) are never to be counted. This fact was mentioned avery long time ago, but the existing retardation in what was called “The Under developed World” was one of the retardation results and it wasn’t the cause as Maltis thought. Honestly, we have to know that Allah (Glory to him) had filled the planet with his gifts and boons, and asked the human being to get benifit from them, distribute them fairly and preserve them.

And because of Colonial and Sociological circumstances; in addition to the scientific and doctrinal retardation, made these countries to become weak and unable to take charge on this task. As a consequence; they suffer from the retarded state they are living in at present.

Thus, the supported solutions with Koran has been put forth to make the Islam the main reference for: Economics, Population, The Independent development, Denial the Subordination, Accomplishing the social Justice and Preserving the Nature Resources.

 

 

منهجـي في البحـث

 

قمت في هذا البحث بطرح موجز لنظرية مالتس حول المشكلة السكانية، وبينت ركائزه في هذه النظرية وأدلته عليها، وحلوله السوداء اللاإنسانية لحل المشكلة السكانية. ثم اتبعت ذلك بموجز من ردود علماء الاختصاص عليه من الجانب العلمي البحت، ثم الاستدلال بالواقع الذي أبى نظرية مالتس وكان على عكسها. ثم اتبعت ردّ أهل الاختصاص بالردّ القرآني، فجمعت الآيات المتناقضة مع نظرية مالتس تحت كل ركيزة من ركائز فكرته؛ لأكشف مجانبة هذه النظرية للأديان مع أن صاحبها قسيس من دارسي اللاهوت. ولتظهر رحمة الله بالكون وأهله، فيشرق الأمل والتفاؤل من فوق أنقاض نظرية مالتس.

وبالتالي لتظهر أهمية المرجعية الإسلامية للمنطلقات الفكرية السكانية والاقتصادية، حيث نبدأ في مواجهة التخلف من هناك. وقد ركز البحث على أن المعيشة الضنكة التي نعيشها ترجع إلى الإعراض عن المنهج الإلهي المعصوم وسوء فهمه.

 

المقدمة:

 

منذ أن أهبط سبحانه وتعالى أبا البشرية آدم وزوجه والشيطان إلى الأرض قال لهم: إن الأرض مستقر مؤقت لكم إلى يوم القيامة، وستجدون فيها من موارد الطبيعة ما يزيد عن حاجاتكم: ]ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين[(1). ومنّ على الإنسان بكثرة نعمه فقال: ]وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها[(2) وهذا شيء طبعي جدا؛ إذ لا يُعقل أن الإله الحكيم العليم الخبير يخلق الإنسان ويورطّه في كوكب قليل الموارد بعد أن أخبره عن طريق الرُسل أنه أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة: ]وأسبغ عليكم نعمه ظاهرة وباطنة[(3).

ومن المؤسف أن يخرج رجل دين وقسيس في بريطانيا يتناقض مع هذا الطرح القرآني بل والنصراني الإنجيلي، فيدعي أن موارد الطبيعة غير متناسبة مع تزايد السكان، وأن البلاد المتخلفة ستبقى متخلفة ما لم تَحدُّ من تزايد السكان فيها بشكل كبير. ومما يُفاقم الأسف أن تجد هذه الأقوال الخرافية آذانا صاغية.

 

توماس روبرت مالتس:

 

هو أحد القساوسة الإنجليز، ولد في إنجلترا عام 1766م، وتلقى تعليما خاصا حتى التحق بجامعة كامبريدج في الثامنة عشرة من عمره، ثم تخرج عام 1787م من الجامعة والتحق كاهنا بالكنيسة عام 1797م. ثم عُين في عام 1805م أستاذا لتاريخ الاقتصاد السياسي في الكلية الهندية بلندن. واشتهر مالتس بما كتبه عن السكان، حتى لقب بـ: (أبو علم السكان)، كما وضع ثلاثة كتب أخرى في الاقتصاد السياسي وعشرات المقالات. وتوفي عام 1834م. بعد أن أمضى عمره في ظل نظام رأسمالي(4).

 

نظرية مالتس:

 

"يرى المختصون في علم السكان أن روبرت مالتس أول من أصّل لمشكلات الموارد الغذائية والتزايد السكاني، وذلك في مقاله الشهير سنة 1798م بعنوان: (مقال عن مبدأ السكان) ثم نشر مقالات أخرى نحو نفس المفهوم مع بعض التعديلات، وكان مفهوم نظريته المطروحة أن سكان العالم سيواجهون موقفا صعبا تكثر فيه المجاعات والتخلف؛ وذلك لأن التزايد السكاني أكبر بكثير وبغير حدود من قدرة الأرض على إنتاج وسائل العيش. وذكر مقولته المشهورة بأن الزيادة السكانية تتبع متوالية هندسية، بينما زيادة الغذاء تتبع متوالية عددية أو حسابية. ولتوضيح المتواليتين يضرب مالتس هذا المثال:

إذا أخذنا الأرض كلها .. وفرضنا أن السكان الحاليين يعادلون ألف مليون فإن الأنواع البشرية سوف تتزايد حسب الأرقام:

1 ، 2 ، 4 ، 8 ، 16 ، 32 ، 64 ، 128 ، 256 ، … الخ.

بينما يزداد القُوت حسب الأرقام: 1 ، 2 ، 3 ، 4 ، 5 ، 6 ، 7 ، 8 ، 9 ، … الخ.

وعلى ذلك فخلال قرنين يكون عدد السكان بالنسبة للمواد الغذائية كنسبة 256 إلى 9، وبعد ثلاثة قرون كنسبة 4096 إلى 13. وفي مرحلة متقدمة تصبح الموارد إلى تناقص؛ فالطبيعة لها حدّ في العطاء تبدأ بعده في تناقص الموارد وهذا ما سُمّي بـ (تناقص الغلة) وعدّ مالتس زيادة السكان سببا في تخلف ما سُمي بـ (البلاد المتخلفة)، وأكد أن كل محاولة للخلاص من التخلف والمجاعة ستبوء بالفشل ما لم يُحدّ تزايد السكان"(5).

ومن سوء حظ مالتس أن فكرته اعترض عليها كثير من العلماء، وأول من "اعترض عليه أبوه"(6) "ونشب صراع حاد بينه وبين بعض المعاصرين له، مثل جودوين وكوندرسيه ودفيد ريكاردو وجان باتست ساي، حيث كان مالتس يمثل وجهة نظر معارضة تماما لأفكار هؤلاء"(7).

وبعد مالتس حصل تطور اقتصادي وتقدم حققته مجموعة دول غرب أوربا والولايات المتحدة الأمريكية خلال فترة الأربعينات والخمسينات والستينات، وغطى هذا التقدم تزايد السكان وزاد عليه بكثير على عكس ما تنبأ به مالتس لدرجة أن د. رمزي زكي قال: وأصبح هناك ما يشبه الإجماع الضمني بين الاقتصاديين، بأن التاريخ قد أثبت عدم صحة الرؤية المالتسية في السكان(8).

ويقول دنيس. هـ. رونج: ولا يتقبل اليوم نظريته عن السكان بالشكل الذي صدرت به أصلا سوى قلة من الديموغرافيين(9) (علماء السكان).

 

ما الداعي للتعرض لنظرية مالتس اليوم؟

 

قد يقول قائل: إذا كانت المالتسية قد انتهت مع نهاية القرن التاسع عشر بسبب التقدم الذي ضاعف موارد الطبيعة بما يكفي للإنسان ويزيد، فعلام نناقش مالتس الآن؟

وللجواب نقول: إن فكرة مالتس لم تغب تماما وإنما ظهرت بأشكال أخرى أكثر لطفا وأقل تشاؤما لكن جوهرها واحد، وهو أن الموارد لا تكفي لتزايد السكان على الإطلاق. وصار الحديث يدور عن الحجم الأمثل للسكان. وممن تلقف هذه الفكرة: مارلو فينكل يلش الألماني، وسيد جويك عام 1883م في كتابه "مبادئ الاقتصاد السياسي"، وأدوين كانان وغيرهم. ومثل هذا كل ما سمي بـ (نيوكلاسك) أو المالتسيون الجدد"(10). "وقد نشط هذا الفكر بعد الحرب العالمية الثانية وبالتحديد في الستينات من هذا القرن على ألسنة المالتسيين الجدد، الذين رأوا في قلة الغذاء العالمي والجوع والتخلف سببا من أسباب النمو السكاني وهذا ما أسموه (الانفجار السكاني)"(11).

"ورغم أن هذه الأفكار من نتائج المفكرين بالدول الرأسمالية الغربية، إلا أنه من المشاهد أن تلك التوصيات قد تغلغلت الآن في كثير من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، بعد أن نجح المالتسيون الجدد في (بيع) هذه التوصيات وترويجها لدى عدد كبير من الاجتماعيين والأطباء والاقتصاديين في هذه الدول"(12) "وأصدر نادي روما عام 1972م تقريره الشهير (حدود النمو)، وهو تقرير أعاد للأذهان بقوة الرؤية المالتسية المتشائمة. وراح يبشر بوقوع كارثة عالمية قبل انتهاء القرن الحادي والعشرين … بسبب انتهاء المواد الأولية، وتلوث البيئة ولمنع هذه الكارثة من الحدوث ينبغي وقف النمو السكاني"(13) "وتزعمت من قبل (الجمعية الطبية المصرية) مبدأ تحديد النسل"(14) ومثل هذا "دعوة عباس عمار: أحد وزراء الشؤون الاجتماعية، بل أكد ميثاق العمل الوطني في عام 1961م أن مشكلة التزايد في أعداد السكان هي أخطر العقبات التي تواجه جهود الشعب المصري في انطلاقته نحو رفع مستوى الإنتاج …"(15) "وفي ألمانيا ودول أوربا الشرقية واليابان والاتحاد السوفيتي وبولندة والمجر ويوغسلافيا ورومانيا وأمريكا وبريطانيا وغيرها ظهرت تشريعات وقوانين تبيح الإجهاض وتدعو لتحديد النسل، وغير ذلك مما يقلل عدد السكان"(16). وطالما عادت المالتسية في جوهرها فلا بد من حوار معها ..

 

مرتكزات مالتس والردّ عليها:

 

1- تزايد السكان يتم من خلال متوالية هندسية ومستقل عن أي مؤثر اجتماعي:

فيرى مالتس أن السكان يتضاعفون في الكوكب كل 25 سنة(17) بل ذهب بعضهم إلى القول بأنه إذا لم يُحد من عدد السكان سيأتي يوم لا يجد فيه الفرد مساحة يعيش فيها على الكوكب أكثر من بوصة مربعة واحدة(18). ويرى مالتس أن السكان متغير مستقل، لا علاقة له بالنظام أو بالمحيط الاجتماعي الذي يتواجد فيه(19).

إلا أن رؤية مالتس هذه التي لا ترى مؤثرا على تزايد السكان إلا الطبيعة هي أقرب للتطبيق على أمة الحيوانات منها إلى أمة الإنسان؛ لأن الحيوان تتحكم فيه الطبيعة والغريزة الحيوانية، وأما الإنسان فيخضع لتأثيرات كثيرة منها ذات طابع اجتماعي: مثل درجة الاستفادة من الطبيعة ومدى تسخيرها ومدى تطور قوى الإنتاج والعلاقات الإنتاجية السائدة، وغير ذلك من العادات والتقاليد والقيم … هذا يعني أن تزايد سكان الكوكب ليس مجرد ميل غريزي كما يتصور مالتس(20) وقد أثبتت البحوث والدراسات الاقتصادية والاجتماعية بعد مالتس … أن السكان في أي مجتمع هم متغير تابع ولا يجوز معالجته بمعزل عن سائر المتغيرات الاقتصادية والاجتماعية(21). كما أن هذه الظروف قد تختلف من بلد لآخر من جوانب كثيرة كنسبة الذكور إلى الإناث في كل بلد والنسبة المئوية لكبار السن ولصغار السن وللمتزوجين والعزاب وللريفيين والحضريين ولمن يستعمل موانع الحمل. ثم الحروب وأثرها في نقص عدد السكان(22) وغير ذلك من تقدم الطب الذي يقلل من نسبة الوفيات وقلة الزواج الذي يقلل من نسبة المواليد.

عدد سكان العالم في كل فترة واختلاف نسب الزيادة منذ سنة 1750 إلى سنة 1950

 

                   السنة

1750

1800

1850

1900

1950

القارة

 

 

 

 

 

 

مليون

مليون

مليون

مليون

مليون

أمريكا الشمالية

1

6

26

81

166

أميركا الجنوبية والوسطى

11

19

33

63

162

أوربا

140

187

226

401

541

أسيا

479

602

749

937

1320

أفريقيا

95

90

95

120

198

أستراليا والجزر المحيطة بها

2

2

2

6

13

المجموع

728

906

1171

1608

2400

 

وكذلك الهجرات التي كانت متنفسا كبيرا لتزايد السكان في أوربا خلال النصف الثاني من القرن التاسع عشر؛ حيث الهجرة إلى المستعمرات نحو الولايات المتحدة الأمريكية وكندا والأرجنتين والبرازيل وأستراليا وهي بلاد كانت ما تزال بكرا(23). ومن الملاحظ أن معظم أوربا والولايات المتحدة أقترب عدد سكانها من الثبات، بينما هناك تزايد واضح في غيرها(24).

وسأرجئ الردّ القرآني على المتوالية الهندسية لأذكر المتوالية الحسابية ثم أردّ عليهما معا.

2- موارد الطبيعة تتزايد من خلال متوالية حسابية إلى حدّ أقصى تبدأ بعده بالنقصان (الغلة المتناقصة).

من سوء حظ مالتس أن نظريته كانت في بدء الثورة الصناعية في إنجلترا وبدء استغلال السهول العظمى بأمريكا الشمالية في الزراعة فقد صحب زيادة الثروة نمو سريع للسكان، وهذا لم يحل دون ارتفاع عام في مستوى المعيشة استمر بلا انقطاع تقريبا حتى الوقت الحاضر، وذلك يناقض ما يمكن أن نتوقعه إذا سلمنا بنظرية مالتس(25) فمنذ الثورة الصناعية تضاعف حجم الإنتاج الصناعي في دول أوربا وأمريكا الشمالية بمقدار يتراوح ما بين ثلاثين وأربعين مرة خلال الفترة ما بين 1850-1950م … بينما عدد السكان – خلال نفس الفترة – قد تضاعف فقط(26). وهذا على نقيض نظرية مالتس. ومن هنا يمكن أن نفهم ما قاله د. عبد الحميد لطفي: أما المتتالية الحسابية فلم يكن لها أساس استقرائي ولم يدعمها مالتس بأي دليل … ومن السهل أن نبرهن على أن وسائل المعيشة تتزايد بدورها حسب متتالية هندسية(27).

ويقول د. علي عبد الرازق جلبي: لقد كشف الإيكولوجيا (الإنسان والبيئة) البشرية أن الإنسان كان يستعين في حفظ التوازن بين الزيادة في نمو السكان ووسائل العيش في كل مجتمع عبر مراحل تاريخ البشرية بتطور بيئته التكنولوجية والتنظيمية … وهذا معناه أن إنتاج الغذاء لم يكن أقل عن الزيادة في نمو السكان على خلاف ما كان يتوقع مالتس(28) .

هذا فيما مضى من تاريخ. فكيف ونحن الآن في عصر التقدم والتكنولوجي وأثره الكبير على الزراعة، واكتشاف موارد البحار والجبال وغزو الفضاء الخارجي؟ لاشك أن هذا على عكس قانون مالتس في الغلة المتناقصة.

 

الردّ القرآني على متواليتي مالتس:

 

أ – الرجم بالغيب:

 

إن الطريقة القطعية التي تكلم فيها مالتس بما يخص النتيجة الحتمية في تزايد السكان بالمتوالية الهندسية وموارد الطبيعة بالطريقة الحسابية، إن هذه النظرية الحتمية والتي لم تبْن على قاعدة علمية دقيقة تُعدّ رجما بالغيب مذموما شرعا، وقد عاب القرآن مثل هذا المنطق الحتمي على العاص بن وائل السهمي فيما روى القرآن عنه(29): ]أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا[(30) فكان الردّ عليه: ]أطّلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا[(31). فاعتبر هذا رجما بالغيب مذموما؛ لأنه لا يقوم على أصول يقينية. وإن كان هذا المذكور في الآية الكريمة كان دقيقا في عبارته أكثر من مالتس الذي تنبأ بزيادة الولد ونقصان المال أو(الموارد الطبيعية)؛ وذلك لأن العاص بن وائل ربط بين الأموال والأولاد ربطا مطردا بتنكيره لفظي المال والولد ليفيد التكثير لكل منهما، وهذا الربط سليم وما أكثر ما ورد في القرآن الكريم، مثل قوله تعالى: ]وقلت يا قوم استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا[(32). وقد رأينا كيف أن الواقع أثبت خطأ تنبؤ مالتس.

وللتأكيد على أن الرزق سواء أكان من الأولاد أو الموارد فهو من الله تعالى: ]وفي السماء رزقكم وما توعدون[(33). ]وما تدري نفس ماذا تكسب غدا وما تدري نفس بأي أرض تموت[(34).

 

ب- النمو السكاني ليس متوالية هندسية:

 

مرّت معنا ردود أهل الاختصاص على مالتس في هذه المسألة، وكذلك تناقض الواقع معها، والقرآن يردّ عليها كذلك حيث إنه ذكر أشياء كثيرة تؤثر في النمو السكاني قلة وكثرة منها:

               ×     الدعاء المستجاب: الذي يرزق الله بسببه الكبير والعقيم وغيرهما أولادا، مثل دعاء زكرياـ عليه السلام ـ: ]وزكريا إذ نادى ربه رب لا تذرني فردا وأنت خير الوارثين[(35) فهو هنا كان يسأل الولد وقد استجاب الله سبحانه له وكذلك حصل مع إبراهيم ـ عليه السلام ـ ]الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل وإسحاق[(36).

               ×     تعيينه سبحانه لنسبة الذكور والإناث في المجتمع، حيث تختلف من فرد لآخر ومن مجتمع لآخر، وهذا يبطل المتوالية الهندسية. قال تعالى: ]لله ملك السموات والأرض يخلق ما يشاء يهب لمن يشاء إناثا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانا وإناثا ويجعل من يشاء عقيما إنه عليم قدير[(37). أي يعطي بعض خلقه إناثا فقط كلوط ـ عليه السلام ـ وبعضهم ذكورا فقط كإبراهيم ـ عليه السلام ـ وبعضهم يعطيه من النوعين الذكران والإناث. وبعضهم الرابع والأخير يجعله عقيما لا ذكر ولا أنثى كيحيى وعيسى عليهما السلام(38). فهذا التقسيم الرباعي يُعدّ من صلب النمو السكاني وهو كما ذكره سبحانه خاضع لـ (عليم قدير) وليس محكوما بالمتوالية الهندسية.

               ×     الأثر الكبير للاستغفار في كثرة الولادات: ومنه قوله تعالى على لسان نوح ـ عليه السلام ـ : ]فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا * يرسل السماء عليكم مدرارا * ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا[(39). قال رجل للحسن: أدع الله أن يرزقني ولدا؛ فقال له: استغفر الله(40).

               ×     معاصي الناس وما تستجلبه من عقوبات إلهية يكون لها الأثر الكبير في كثرة الوفيات مما يفقد المتوالية الهندسية صحتها ومن ذلك: طوفان نوح ـ عليه السلام ـ  وكذلك العقوبات التي طالت قوم عاد وثمود وغيرها، وهي معروفة لكل مسلم، وكذلك ما قد يبتلى به الناس من تسليط بعض الطغاة عليهم وما يمارسونه من قتل وتشريد مما يؤثر على النمو السكاني، وهذا ما ذكره سبحانه عن بني إسرائيل في مصر وتعذيب فرعون لهم: ]إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي نساءهم إنه كان من المفسدين[(41). وعند أكثر المفسرين بقي هذا العذاب في بني إسرائيل سنين كثيرة(42) ولا شك أن هذا يُخل في نظام النمو السكاني كثيرا.

               ×     الهجرة طلبا للنجاة والعلم وغير ذلك: وهذه من الأركان التي تدرس في علم السكان وتؤثر فيه نقصا في مكان وزيادة في مكان آخر، قال تعالى لمن ضاقت بهم الأرض لسبب ما محرضا لهم على الهجرة إلى مكان أنسب لمعيشتهم: ]إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا[(43). وأخبر سبحانه أن موارد الكوكب كثيرة فمن ضاقت به أرض فسيجد في أرض أخرى سعة في العيش: ]ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض مراغما كثيرا وسعة[(44). والسعة هنا في الرزق وإظهار الدين(45). ولا شك أنها سعة في المكان كذلك؛ وإلا لما كان هناك مَهجر للمهاجر.

      وهذا ردّ على غلات المالتسيين الذين رأوا أن المتوالية الهندسية للسكان لن تبقي للفرد على الكوكب أكثر من بوصة مربعة، كما سبق. كما أن الآية الكريمة تشير إلى عدم التوزيع المتساوي للموارد على الكوكب. فيهاجر الإنسان من أماكن النقص إلى أماكن الزيادة. وهذا مصداق ما حصل من الهجرة الأوربية إلى المستعمرات وقد مرّ. وفي هذا المعنى قال تعالى: ]الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له إن الله بكل شيء عليم[(46). فموارد الطبيعة أرزاق وزعها الله سبحانه في هذا الكوكب بما يقتضيه علم الله وحكمته.

ومن الآيات الدالة أيضا على أن الأرض خلقت وعاءً مناسبا للإنسان لا يضيق عليه مع بقاء الموارد وأن من قال خلاف هذا يعدُّ مكذبا قوله تعالى: ]ألم نجعل الأرض كفاتا * أحيا وأمواتا * وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتا * ويل يؤمئذ للمكذبين[(47) وكفاتا: وعاء، لكل الناس: الأحياء على ظهرها مع مواردهم من أنهار وغيرها، والأموات في باطنها(48).

كما أن الشريعة الإسلامية بأكملها تحض المسلمين على الزواج والتكاثر، وبالتالي ستكون الزيادة في السكان عند المسلمين والذين يشكلون قريبا من ربع الكوكب أكثر من غيرهم بتأثير عقدي، وهذا ما لا يتماشى مع متوالية مالتس. هذه نبذة من المؤثرات على النمو السكاني من خلال القرآن وغيرها كثير.

ومن جهة أخرى فقد أغفل مالتس من خلال متواليتيه الهندسية والحسابية شيئا مهما، ما كان لقسيس مثله أن يغفله وهو أن هذا الكوكب غير مخلد وأهله كذلك. وأن وجود الإنسان على ظهر هذا الكوكب لفترة زمنية تكفي لامتحانه كما قال تعالى: ]الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا[(49) وقد أخبر سبحانه بهذا آدم وزوجه والشيطان عندما أهبطهم على هذا الكوكب، قال تعالى: ]فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه وقلنا اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين[(50). وفي سورة الأعراف: ]قال اهبطوا بعضكم لبعض عدو ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين * قال فيها تحيون وفيها تموتون ومنها تخرجون[(51). إذن فالله سبحانه قد جعل لهذا الكوكب بما فيه قدْر وأجل ينتهي إليه فقد قال: ]قد جعل الله لكل شيء قدرا[ وعبر عن الفناء بكل وضوح في قوله: ]كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام[(52).

إذن المتوالية الهندسية التي لا نهاية لها نحو المستقبل تتعارض مع عقيدة المؤمنين بالله من أهل الكتب السماوية، وهي مقولة قالها بعض ملاحدة العرب قبل مالتس، وهذا مارواه سبحانه عنهم في قوله: ]وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون[(53). وقد صنف الشهرستاني القائلين لهذه المقولة تحت عنوان: منكرو: الخالق، والبعث، والإعادة(54).

والآية القرآنية: ]ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين[ تفيد إضافة إلى قطع المتوالية الهندسية أن المتاع مستمر مع استمرار الإنسان إلى حين، وهو يوم القيامة. ولفظ المتاع يحمل معنيان: الأول: ما ينتفع به. والثاني: استمرار الانتفاع إلى مدة معلومة. قال الأصفهاني: المتاع: انتفاع ممتد الوقت(55). وبالتالي يشمل لفظ المتاع كل ما يُنتفع به من موارد الطبيعة ويضمن بقاء هذه الموارد إلى حين: وهو يوم القيامة، أي إنه سبحانه جعل تزايد السكان متناسبا مع تزايد الموارد ضمن نظام واحد على خلاف ما زعم مالتس من التفرقة بين نمو السكان والموارد فجعل نمو السكان متوالية هندسية، والموارد متوالية حسابية؛ فكانت النتيجة في غاية الخطأ والتشاؤم والبعد عن الدين.

 

ج- موارد الطبيعة غير مقيدة بمتوالية حسابية:

 

القرآن الكريم يخبرنا أن موارد الطبيعة أعظم بكثير مما يعتقد مالتس. قال تعالى: ]وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلا بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لا تَعْلَمُونَ * وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنْ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ * يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلا لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ * وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ * أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ * وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ[(56).

فهذه الآيات بين فيها سبحانه بعض ما أنعم به على الإنسان من مثل الأنعام وفوائدها. والأمطار للشرب والزراعة وكل الثمرات، وتسخير الليل والنهار والشمس والقمر والنجوم، وما في البحر من حيوانات رغبنا بأكلها. ومعلوم أن تكاثر هذه الحيوانات يفوق المتوالية الحسابية والهندسية، وهي من موارد الطبيعة.

 كما لفت النظر سبحانه إلى المعادن الثمينة التي تستوطن البحار، وإلى التجارات البحرية والبرية. ثم يطلب منا سبحانه الاستفادة من هذا كله لصالح الإنسان فقال: ]لتبتغوا من فضله[ فصار إخراج الموارد منوط بعقلية الإنسان وتفكيره كما ذكر سبحانه في هذه الآيات. ثم عمم سبحانه نعمه وقال: إنها تفوق وسائل الحصر سواء أكانت حسابية أم هندسية فقال: ]وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها[. ولكن الإنسان كثيرا ما يغفل عن نعم الله ويظنها كما ظنها مالتس قليلة نادرة، فلا يقابل هذه النعم بالشكر وإنما بالكفر. قال تعالى: ]وآتاكم من كل ما سألتموه وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار[(57). وأما المؤمن الذي أعمل عقله وتفكيره في البحث عن هذه الموارد والاستفادة منها فلا شك أنه يعرف فضل الله العميم عليه، ويعجز عن شكر ربه.

ثم إن الله سبحانه أخبرنا أنه لم يتكفل برزق الإنسان فقط على هذا الكوكب؛ وإنما تكفل برزق كل من دبّ عليه فقال: ]وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها[(58) ولما كان الإنسان يخشى على رزقه كثيرا؛ فتصيبه الأثرة في موارد الطبيعة قدم سبحانه رزق غير الإنسان على الإنسان إشارة منه سبحانه إلى كثرة نعمه التي تكفي الجميع وتزيد فقال: ]وكأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها وإياكم وهو السميع العليم[(59) وإذا كان سبحانه قد تكفل برزق من لا يقدر على حمل الرزق أو تخزينه من الحيوانات؛ فكيف يخاف المجاعة من يستطيع حمل الرزق وتخزينه وحفظه لوقت طويل؟!.

 

د – القرآن كثيرا ما يؤكد على التوازن بين السكان والموارد:

 

لو تأملنا آيات القرآن الكريم لوجدناه يعطي لمحة تاريخية قديمة عن وجود التوازن بين الأرزاق والسكان، ومن ذلك الآيات التي تتحدث عن تاريخ أقدم من 3500 ق.م أي أقدم من فرعون حيث قال سبحانه لقارون: ]أولم يعلم أن الله قد أهلك من قبله من القرون من هو أشد منه قوة وأكثر جمعا[(60). وقال في مقام آخر: ]أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وأثاروا الأرض وعمروها أكثر مما عمروها ..[(61). وقال مخاطبا لمنافقي العرب: ]كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالا وأولادا[(62). نرى في هذه الآيات الكريمة التوازن بين كثرة السكان وكثرة ما في أيديهم من النعم منذ القديم، وهذا ما سبق وأشار إليه علماء السكان والبيئة.

ولا شك أن هذا التوازن من مستلزمات الحكمة الإلهية إذ لا يعقل أن يخلق الله الإنسان ويورطه في كوكب لا يكفي لمعيشته وتناسله مع أن جهاز الهضم والتناسل من صنع الله وخلقه. وقد بين سبحانه أنه قدر أقوات الأرض عندما خلقها فقال: ]وجعل فيها رواسي من فوقها وبارك فيها وقدر فيها أقواتها في أربعة أيام سواء للسائلين[(63). وقد امتدح سبحانه نفسه على حسن تقديره فقال: ]فقدرنا فنعم القادرون[(64).

 

3- التخلف باقٍ ما لم يُحدّ من السكان:

 

ثمة حقائق لا يمكن للباحث أن يتجاهلها وهو أن ما يُسمى في أيامنا بـ (البلاد المتخلفة) والتي تبلغ في عدد سكانها ثلاثة أرباع العالم، يعاني 40% منها من فقر متقع. وأعداد هائلة من العاطلين عن العمل، و80% من سكان الريف في هذه البلاد لا تتوافر لديهم مياه الشرب النقية، ويقدر عدد المصابين بالعمى ما بين 30 – 40 مليون فرد. ونسبة الأمية في الدول المتخلفة بسبب تلوث المياه ونقص الفيتامينات في قارة آسيا ما بين 47 – 55%، وفي دول أمريكا اللاتينية 25% وفي الدول الأفريقية ما بين 74 – 55% وهناك 34 دولة تزيد فيها النسبة على 80% وطبقا لتقديرات اليونيسيف مات في عام 1979م وحده ما يزيد عن 12 مليون طفل تقل أعمارهم عن 5 سنوات بسبب الجوع"(65).

ويرى مالتس والمالتسيون أن كل محاولة للتنمية محكوم عليها بالفشل ما لم يحدّ عدد السكان(66). وأن خطر هذه الأعداد الكبيرة خطر عالمي بسبب استنزاف موارد الطبيعة(67).

والحقيقة إن عبء كثرة السكان ليست سببا في التخلف وإنما نتيجة له، فإن كثرة السكان تساعد في الدفاع عن البلاد، وتوفر الأيدي العاملة والكفاءات إذا ما وَجدت الحكومات التي توظف هذه الأيدي وفق خطط اقتصادية ناجحة. ومن الملاحظ أن جميع الدول العظمى تقوم على أعداد ضخمة من السكان. وأما النمو المزدهر الذي شهده الغرب فليس راجعا لقلة العدد في السكان؛ وإنما للتقدم التكنولوجي الهائل والحصول على مواد الطاقة وبالذات النفط من دول العالم الثالث بأبخس الأثمان. وتقسيم العمل الدولي بين الدول المتقدمة والمتخلفة لصالح المتقدمة، وغير ذلك من الإيجابيات.

وغير صحيح أن أهل هذه البلاد المتخلفة يستنزفون موارد الكوكب؛ لأن أهل هذه البلاد الذين يمثلون ثلاثة أرباع سكان الكوكب لا يحصلون إلا على نحو عُشر الناتج القومي الإجمالي للعالم، وإن ما يتكلفه العالم من الموارد لإطعام أمريكي واحد يزيد 30مرة على ما يتكلفه لإطعام الهندي"(70).

وأما الأسباب الحقيقية وراء هذا التخلف فهي كثيرة وفي مقدمتها: الاستعمار الذي استولى على هذه البلاد وكرّس فيها التخلف، وعندما استقلت وجدت نفسها قد فقدت كثيرا من ثرواتها وما بقي منها لا تملك الآلية لاستثماره. كما أن هذه البلاد بقيت متأثرة بالفكر الاقتصادي الغربي لهذه البلاد وهو ما جعلها في حالة تبعية للغرب، وبمعنى أوضح لتبقى ثرواتها مواد أولية يستوردها الغرب بينما تصبح البلاد سوقا لمنتوجاتهم، وميدانا للشركات الأجنبية لتستمر في استنزاف خيرات البلاد، فقد بلغت الأرباح الاحتكارية للشركات الأجنبية في هذه البلاد التي حولت إلى البلاد التابعة لها خلال الفترة من 1960 – 1970م حوالي 51.9 مليار دولار(71).

ومن جهة أخرى فأكثر هذه البلدان تعاني من حكم ديكتاتوري فاسد لا يقوم بتوزيع الثروات بالعدل، وينفق أموال البلاد على العسكر وأجهزة الأمن التي تحمي بقاءه في السلطة. كما تعاني هذه البلاد من ركود اقتصادي وعدم تبني سياسة اقتصادية واضحة، ويتفشى فيها الفساد وفساد النظم الإدارية مما يشتت ويضيع ثروة البلاد، فتلجأ إلى الديون الربوية وتكثر منها إلى أن تغرق في بحرها وتزداد عجزا، فتكثر البطالة وتهاجر الكفاءات التي لم تجد مجالا للعمل في بلادها إلى الخارج. ففي عام 1980م كان بالدول الرأسمالية 7 ملايين من هذه الخبرات، وتكسب هذه الدول من ورائهم من 60 إلى 65 مليار دولار سنويا"(72). كل هذا وغيره أدى إلى ظهور ما سُمي بـ (المشكلة السكانية) والحقيقة هي نتيجة تخلف وليست سببا فيه.

 

متابعة الردّ من خلال القرآن الكريم:

 

القرآن الكريم يرفض التخلف والتأخر ويطلب من أمة الإسلام أن تكون رائدة الكوكب كما أراد الله سبحانه حيث قال: ]كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر[(73) وقال: ]لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدا[(74) وكثيرا ما وجه الله سبحانه الناس لاستعمال العقل، كما فضل العلم وأهله: ]قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون[(75). وحض الناس على العمل لعمارة الكوكب وصلاحه فقال: ]هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها[(76) وقال: ]وقل أعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون[(77) وطلب من عباده سبر أغوار هذا الكوكب بعد أن ذللـه لهم فقال: ]هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه[(78) وقال: ]فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله[(79). وبالتالي فما أصاب الإنسان من ضيق فمن كسبه وتقصيره في استخلاص الخيرات التي سخرها الله له في السموات والأرض. قال تعالى: ]ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك[(80) وقال: ]ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس[(81) وقال: ]وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيدكم[(82).

ولعل الحكومة التي تحكم البلاد يقع عليها العبء الأكبر من هذه المسؤولية؛ لأن الناس تبع لحكامهم. وقال تعالى مخاطبا لنبيه داود: ]يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق[(83). وقال: ]إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل[(84). فمن أهم ما يجب على الحاكم: إقامة العدل. وإشاعة الأمن والاستقرار. وتهيئة ما يحتاجه الناس من مختلف الصناعات والحرف والعلوم؛ لأن كل هذه الأشياء من فروض الكفاية لحاجة الأمة إليها. واستثمار خيرات البلاد بما يحقق الرخاء الاقتصادي والعيش الكريم للرعية(85). فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "كلكم راع ومسؤول عن رعيته فالإمام راع ومسؤول عن رعيته والرجل راع في أهله وهو مسؤول عن رعيته"(86) كما يجب على حاكم الناس أن يولي عليهم خيارهم من أهل الكفاءات كما قالت بنت شعيب ـ عليه السلام ـ فيما رواه الله عنها: ]إن خير من استأجرت القوي الأمين[(87)

والملفت للنظر أن كثيرا من الحكومات اليوم، وبالذات التي توصف بالمتقدمة قد أفسدت بمصانعها ومعاملها البيئة من هواء وأرض وأنهار وبحار، مما اتلف موارد البيئة بدل زيادتها، فهناك ما يزيد على 90 دولة تواجه مشكلة التصحر، ويؤكد الخبراء أن احتمالات نقص الأراضي القابلة للزراعة تصل إلى 25% من الأراضي المزروعة في الدول النامية حتى عام 2000(89) وهذا بما كسبت أيدي الناس من أسباب يذكرها علماء البيئة. وفي النرويج أصبح نحو 4000 بحيرة الآن خالية من الأسماك وهو ما يطلق عليه الآن بالبحيرات الميتة(90) بسبب الأمطار الحمضية الملوثة بالهواء الملوث، وفي السويد 85000 بحيرة أصبحت حمضية(91) ونهر الرور في ألمانيا لم يعد صالحا للشرب(92) وكذلك تلويث المحيطات وغيرها مما يكثر ذكره في أيامنا.

ومن العدل عند الحاكم توزيع الثروة على الناس بالإنصاف، وعدم أكل أموال البلاد والتبذير فيها والحذر من انقسام المجتمع إلى طبقتين غنية جدا وفقيرة جدا، فهذا ما حاربه الإسلام بتوزيع الأموال. قال تعالى معللا توزيع الأموال على الفقراء بأن ذلك احتراز من أن يكون المال متداولا بين أيدي الأغنياء فقط: ]ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم [(93).

وكذلك لما كان الفساد مرهق لاقتصاد البلاد، لما فيه من أخذ أموال الناس بغير الحق حاربه القرآن الكريم: ]ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون[(94). وحض كذلك على التكافل بين أفراد المجتمع فأخذ الزكاة من الأغنياء وأعطاها للفقراء: ]والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم[(95).

ومن جهة أخرى أمر القرآن بالاعتدال في توزيع موارد الطبيعة وبحسن استخدام الموارد، وهذا يفهم من قوله تعالى: ]يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين[(96) وعدم حبه للمسرفين لأنهم يسيئون في التعامل مع موارد الطبيعة توزيعا واستهلاكا. ومثله قوله تعالى: ]وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا. إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا[(97). ثم أوضح بجلاء أن استنزاف الموارد بشكل كبير فيه تبذير وإسراف يقضي على هذه الموارد، ويعود بالعوز والفاقة على صاحبه وأن الصواب بالتوسط بين الإفراط والتفريط فقال: ]ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا[(98). وما الاقتصاد في جوهره إلا التوازن والتوسط.

وأما بالنسبة إلى عدد سكان الكوكب فالقرآن يشجع على زيادة عددهم وهدايتهم، ويحارب النظرة المالتسية المتشائمة والتي تتضجر من لقمة الطعام في فم الفقير والمسكين. قال تعالى: ]فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع[(99). وكافأ سبحانه الصالحين بكثرة الأولاد فقال على لسان نوح: ]فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا[(100). وقد مرّ أنه سبحانه تعهد برزق الجميع.

 

ما الحل للمشكلة السكانية عند مالتس:

 

يطرح مالتس حلولا لا إنسانية لزيادة السكان يسميها بالموانع الإيجابية والسلبية. ويقصد بالموانع الإيجابية: تلك العوائق التي من شأنها زيادة معدل الوفيات كالحروب والمجاعات والأوبئة. وأما الموانع السلبية: فتتمثل بتخفيض معدل المواليد عن طريق تأخير سن الزواج وكبح الشهوة الجنسية ومنع الفقراء من الزواج وكثرة الإنجاب. ويرى مالتس أن هذه الموانع لا مفر منها بل هي حتمية ولا نجاة للكوكب بغيرها. ولذلك كان مالتس من أشد المعارضين لقانون (إغاثة الفقراء) لئلا يتشجعوا على الزواج وزيادة نسلهم. وقد استفاد ريكاردو من مالتس وجاء بنظرية (الأجر الحديدي) للعمال: وهو الأجر الذي يؤمّن الحد الأدنى للعامل ليجدد جنسه فقط دون أن يزيد، وذلك للحاجة إلى الفقراء كعمال فقط؛ وبالتالي يحدّ من قدرتهم على الزواج والتكاثر(101). بل وصل الحد ببعض المالتسيين الجدد إلى أن اقترح:

 

1-         تعقيم الرجال والنساء بشكل إجباري.

2-         التعقيم الجماعي بغير علم الناس عن طريق وضع مواد كيماوية في الماء والطعام.

3-         قانون بإباحة الإجهاض.

4-         إلغاء قوانين إغاثة الفقراء حتى يمنع من تكاثرهم.

5-         وضع قوانين تعقد عملية الزواج.

6-         وضع ضرائب على الأطفال وزيادة تكاليف الزواج  والرسوم المتعلقة به وبالأطفال.

وغير ذلك من المقترحات اللاإنسانية(102). وقد بينت سابقا أن المشكلة السكانية نتيجة من نتائج التخلف وليست سببا فيه، وأضيف هنا إضافة لابد منها فأقول: إذا كانت كثرة الناس تسبب الجوع، فالأولى أن نتوقع انتشار المجاعة في البلدان التي فيها عدد أكبر من السكان بالقياس إلى كل فدان مزروع. لكننا لا نجد مثل هذه العلاقة. قارن بين الصين والهند مثلا. فالصين تملك مجرد نصف الفدادين المزروعة لكل فرد مقارنة بالهند. ومع ذلك فقد توصل الشعب الصيني في عشرين سنة فقط إلى القضاء على كل أثر ظاهر للجوع، بينما لا يزال الملايين يجوعون في الهند.

ولنأخذ هنا حالة أفريقيا جنوب الصحراء كمثال، حيث توجد فيها خفة سكانية بالنسبة للأراضي المزروعة؛ إذ يوجد نحو الفدانين ونصف من الأرض المزروعة لكل فرد. أي أكثر مما في الولايات المتحدة أو الاتحاد السوفيتي، وست إلى ثماني مرات أكثر مما في الصين، ومع ذلك تعدّ هذه المنطقة من أكثر مناطق العالم تعرضا للجوع"(103).

 

الردّ القرآني على حلول مالتس:

 

بينت سابقا أن المشكلة السكانية نتيجة من نتائج التخلف وليست سببا فيه؛ وبالتالي كل حل يبتعد عن الأسباب الحقيقية للتخلف ويتجه نحو أعراضه فحسب يعدّ مضيعة للوقت والجهد.

وأما بالنسبة لحلول مالتس اللاإنسانية لمشكلة التخلف والجوع ونفاذ موارد الطبيعة فهي حلول يرفضها القرآن رفضا باتا كما ترفضها الإنسانية والنفوس السوية، فإن ما يسميه مالتس بالموانع الإيجابية وهي: الأمراض والأوبئة والمجاعات والزلازل والبراكين وغيرها مما يطال الإنسان فيهلكه، كل هذه الأمور ذكر القرآن أنها تطال البشر؛ ولكن ليس بهدف الحدّ من عدد السكان والمحافظة على موارد الطبيعة من النفاذ، وإنما من باب عقوبة العصاة على معاصيهم وتجاوزهم الحد في الكفر والضلال. قال تعالى: ]كدأب آل فرعون والذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي شديد العقاب[(104). وقال: ]ألم يرو كم أهلكنا من قبلهم من قرن مكناهم في الأرض ما لم نمكن لكم وأرسلنا السماء عليهم مدرارا وجعلنا الأنهار تجري من تحتهم فأهلكناهم بذنوبهم وأنشأنا من بعدهم قرنا آخرين[(105). ولذلك كشف سبحانه العذاب عن قوم يونس – بعد أن كاد أن يقع عليهم – عندما آمنوا: ]فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلا قوم يونس لما آمنوا كشفنا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ومتعناهم إلى حين[(106).

والقرآن لا يشمت بالعصاة وعذابهم كما يرغب مالتس، وإنما تأتي الرسل لتنقذ الأقوام من الدمار ولا يتم الدمار إلا بعد العناد: ]وإذ قالت أمة لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون[(107). كما أن هذه النكبات قد تصيب بعض الناس لا على سبيل العقوبة وإنما على سبيل الاختبار والامتحان والتمحيص وفرز الصفوف. قال تعالى: ]ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين[(108).

وهناك ما يصيب الناس بسبب سوء تعاملهم مع الإنسان أو الحيوان والطبيعة مثل مرض الإيدز، وأمراض المستنقعات وغيرها فيكون هذا بما كسبت أيدي الناس من تقصير في صيانة الإنسان والبيئة.

وأما ما سماه مالتس بالموانع السلبية: مثل تأخير الزواج وعدم إغاثة الفقراء والحد من زيجاتهم وتناسلهم وكبت الشهوة الجنسية بهدف قلة المواليد، ثم تطورت هذه عند المالتوسيين إلى أنواع من موانع الحمل وإباحة الإجهاض والحد من الإنجاب وغير ذلك. كل هذا يخالفه القرآن الكريم. فقد سبق وذكرت تشجيع الإسلام على الزواج والإنجاب وأزيد هنا التشجيع على زواج الفقراء على وجه الخصوص فقد قال تعالى حاضا على تزويج الإماء والعبيد: ]وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم[(109). وبنفس الآية بين أن الفقر ينبغي أن لا يمنع من إتمام هذا الزواج بل قد يكون الزواج من أسباب الغنى فقال: ]إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله والله واسع عليم[.

وكبت الشهوة وارد شرعا بسبب، ولكن ليس بهدف عدم إنجاب الأولاد خوفا من نفاذ موارد الطبيعة! وإنما بسبب عدم استطاعة الإنسان القيام بأعباء الزواج فيصبر ريثما يتأهل لذلك. قال تعالى: ]وليستعفف الذين لا يجدون نكاحا حتى يغنيهم الله من فضلة[(110). وكلمة (حتى) في الآية الكريمة تفيد الغاية، بمعنى أن التعفف وعدم الزواج يستمر إلى غاية أن يجد من المال ما يكفيه للزواج، فإذا ما وجد المال فلا داعي لأن يؤخر الزواج بعد ذلك وهذا ما أكدته السنة بقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء"(111).

وهذا على خلاف مالتس الذي يرى تأخير الزواج. ويبدو أن فكرة مالتس قريبة مما هو معتمد عند النصارى وهو (التبتل)، بمعنى الانقطاع للعبادة والابتعاد عن الزواج، وهذا المعنى لم يؤيده الإسلام وبين القرآن أنه ليس من عند الله وإنما أحدثه النصارى فقال: ]ورهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم[(112). كما أن هذه الفكرة – أي تأخير الزواج – مدعاة للانحراف والشذوذ وهذا من أمراض الغرب اليوم. ولما كان تأخير الزواج فكرة مناقضة للفطرة وميولات البشر لجأ الناس إلى الزواج مع استعمال موانع الحمل والإجهاض، مع أن الإجهاض مخالفة واضحة للشرائع السماوية. قال تعالى: ]ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم وإياكم إن قتلهم كان خطأ كبيرا[(113).

ففكرة مالتس والمالتوسيين لا شك في خطئها ومخالفتها للشرائع وهي أشبه بما كان يفعله بعض العرب الذين نزلت فيهم الآية السابقة وهو وأد البنات، وهي عادة فعلها اليونان والرومان وباقي شعوب البحر المتوسط بحجة اقتصادية(114) وحاربها القرآن، وضمن للأطفال في بطون أمهاتهم وخارجها حق الحياة. وأمر بعلاج المشكلة السكانية عن طريق تنمية الموارد.

وفكرة عدم إغاثة الفقراء لئلا يتزوجوا ويتناسلوا ولتزداد نسبة الوفيات فكرة من أقبح الأفكار التي عرفتها البشرية،  لأنها تخالف ما جبل عليه الإنسان من الرحمة والشفقة. 

ونسي مالتس أن الله خلق الإنسان ليس ليأكل فقط؛ وإنما من أجل أن يعبده ويقيم على هذا الكوكب خلافة القيم والأخلاق والمبادئ والرحمة. قال تعالى: ]وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون[(115). وبين سبحانه أنه هو المالك الحقيقي للمال ثم أمر بإنفاقه على الفقراء فقال: ]وآتوهم من مال الله الذي آتاكم[(116) بل جعل ما يعطى للفقراء حقا من حقوقهم على الأغنياء فقال: ]والذين في أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم[(117). كما بين القرآن أن الإنسان ـ جنس الإنسان ـ مكرم عنده فقيره وغنية وعلى اختلاف ألوانه فقال: ]ولقد كرمنا بني آدم[(118) وبين أن لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى فقال: ]إن أكرمكم عند الله أتقاكم[(119). بل بين القرآن أن من أسباب النكبات التي تصيب الناس منع الصدقات على الفقراء! فقصّ علينا قصة أصحاب البستان الذين أرادوا أن يجنوه دون علم من الفقراء لعدم الرغبة في إعطائهم منه فقال: ]إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة إذا أقسموا ليصرمنها مصبحين * ولا يستثنون * فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم[(120).

ولم يقف القرآن عند هذا الحد بل ارتقى إلى درجة الإيثار على النفس وإعطاء المحتاجين فقال: ]ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة[(121). فأين مالتس من هذه القيم الإسلامية الإنسانية.

 

والحقيقة أن مالتس لم يكن أول من قال بهذا الكلام، ولكن لعله أول من نظمه ورتبه من خلال نظريته، فلو نظرنا في عمق التاريخ في القرن 18 ق.م لرأينا في بعض النقوش الأكدية عن بلاد ما بين النهرين أن الآلهة كانت تنزعج من كثرة الناس واتساع البلاد وكثرة الضجيج، فيأمرون بإحلال الأوبئة والأمراض وحجب المطر عن الناس، وغير ذلك من الوسائل التي تحدّ من عدد السكان، وإليك هذه الترجمة لهذه النقوش: ستمئة سنة، أقل من ستمئة سنة مرت، وأصبحت البلاد واسعة جدا، والناس كثر. كانت البلاد ضاجّة كما الثور الخوّار. ضاق الربّ ذرعا بصخبهم، واضطر إلّيل لسماع ضجيجهم. فخاطب الآلهة قائلا، ضجيج الجنس البشري لم يعد يطاق. ضجيج يفقدني رقادي. اقطعوا عن الناس غذاءهم! وليشح الزرع فلا يسد جوعهم! وليحرمهم أدد مطره… ولتهب الريح، وتجرّد الأرض مما عليها… وسوف لن تأتي السعادة عليهم(125).

وقد شغلت مسائل السكان بال الإغريق، فنجدهم في أشعارهم القديمة يعتقدون أن زيادة السكان كانت سببا في حرب طروادة، كما ذكر مالتس أن فلاسفة الإغريق كانوا يعتقدون خطر زيادة السكان… فكانوا يعمدون إلى قتل أطفالهم، وهذا ما كانت تفعله بعض قبائل العرب… وقد اقتبس مالتس بعض آراء أفلاطون وأرسطو؛ لكي يبين أنهما وضعا هذا الأمر في موضع الاعتبار، فحدد أرسطو عدد المواطنين في كتابه القوانين بما لا يزيد على 5040 مواطنا في المدينة واعتبره العدد الأمثل، وهذه الأفكار عرفها الإغريق في القرن 4 ق.م(126). ومن جهة أخرى فإن فكرة مالتس والمالتوسيين من بعده تصب في صالح الإقطاع والرأسمالية؛ لأنها تدافع عن الغني القوي وتغمط حق العامل الفقير وتحرمه من ممارسة إنسانيته، ومن التكاثر إلا بالقدر الذي يضمن بقاء طبقة العمال لتبقى الأموال تتدفق على ملاك الأراضي والمصانع.

كما أن هذه الأفكار لا يمكن أن تكون حلا لمشاكل العالم الثالث، أو المتخلف؛ لأن هذه الأفكار مبنية على أساس بقاء تقسيم العالم على ما هو عليه لتبقى الدول الرأسمالية تمتص خيرات المتخلفة، ولبقاء حالة التبعية؛ ولأن أية نهضة اقتصادية قوية في العالم المتخلف تعني ضربة اقتصادية للغرب الرأسمالي، وضياع سوقه للتصريف والاستثمار في البلاد المتخلفة، وبالتالي انخفاض الأرباح وغلاء المواد الأولية مما يؤدي إلى ضعف الدخل والناتج القوميين، ووقوع أزمات اقتصادية خانقة هناك مما يكشف عورة النظام الرأسمالي.

 

الحلّ من منظور قرآني:

 

بعد أن ظهر زيف المالتوسية بالدليل القرآني إضافة لأدلة أهل الاختصاص وإضافة إلى عدة عقود مضت كرست التخلف والتبعية، لم يعد أمامنا إلا البحث عن حل آخر، وهو الذي أراه يدور حول المحاور الآتية:

 

1- اعتماد الإسلام أساسا لبناء علم السكان والاقتصاد(127).

 

فقد قال تعالى: ]ما فرطنا في الكتاب من شيء[(128). ]ولا يأتونك بمثل إلا جئناك بالحق وأحسن تفسيرا[(129) فللقرآن جانب مهم وهو العصمة من الخطأ، كما أن له أسبقية على المالتوسية وقد سبق شيء من هذا في هذا البحث(130) وقد أوعد سبحانه من أعرض عن ذكره بمعيشة ضنكة، وهذا ما نجده في زماننا قال تعالى: ]ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى[(131). كما أن العودة إلى الله من أسباب الخير فقد قال تعالى على لسان نوح: ]وقلت يا قوم استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا[(132). قال القرطبي: في هذه الآية دليل على أن الاستغفار يُستنزل به الرزق والأمطار وبه قال الحسن(133). وفي الآية توازن بين زيادة البنين وبين الجنات والأنهار والأمطار.

 

2- التنمية المستقلة ونفي التبعية:

 

فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: لا تكونوا إمّعة(134) والقرآن طلب من المسلمين عمارة الأرض فقال: ]هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها[(135) وقد قال تعالى: ]وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة[(136) ومن أهمها في أيامنا الاقتصاد القوي الذي يعيننا على الاكتفاء وترك التبعية. كما نهانا القرآن أن نتخذ بطانة من غير المسلمين، ومن باب أولى أن لا نكون نحن بطانة وتبعا لغير المسلمين. قال تعالى: ] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانة من دونكم ولا يألونكم خبالا ودّوا ما عنتم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون[(137).

فكيف بعد هذا نثق بحلولهم وأفكارهم التي يصدرونها لنا، وقد رأينا نتيجتها في العقود الماضية. إذن ينبغي أن نستفيد من تجارب الماضي ونصنع أهل العلم والكفاءة القادرين على إخراجنا من عنق الزجاجة، فقد بين القرآن أن خزائن الأرض لا يصلح لإدارتها إلا بليغ العلم والأمانة والصون. قال تعالى عن لسان يوسف ـ عليه السلام ـ: ]اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم[(138). فاستخراج كنوز الأرض وثرواتها والاستفادة منها بشكل صحيح يحتاج إلى:

 

أ – (حفيظ) يصون الموارد ولا يتلف بسبب سوء الاستخدام، ولا يسرف ولا يبذر في التوزيع والاستهلاك، وغير ذلك مما تحتمله كلمة (حفيظ) من معان.

ب- (عليم) بخطط إدارة الموارد وكيفية استخراجها وحسن التعامل معها وتطويرها وغير ذلك.

ومن الواضح أن بعض العلماء الصناع والمخترعين في أيامنا لم يكونوا من أهل الحفظ والعلم، فبأفكارهم تلفت وتلوثت موارد الطبيعة، وطالت بضررها الكوكب بمن فيه. فيوسف عليه السلام ـ  بعلمه جنب مصر المجاعة عندما قال: ]فما حصدتم فذروه في سنبله[(139) وهؤلاء  أهلكوا الإنسان والنبات والحيوان وقضوا على الكثير من موارد الطبيعة.

 

3- تحقيق العدالة الاجتماعية:

 

فإن سوء توزيع الثروة واستخدامها قسّم المجتمعات المتخلفة إلى طبقتين: غنية جدا وفقيرة جدا، وجعل ثروات البلاد دُوْلة بين الأغنياء فقط، وقد سبق أن ذكرت قوله تعالى: ]كي لا تكون دولة بين الأغنياء منكم[(140). وقال تعالى: ]وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل[(141) وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ: كلكم راعٍ ومسؤول عن رعيته(142) فحمّل الجميع المسؤولية وفي مقدمتهم الحاكم. وقال أيضا: "كفى بالمرء إثما أن يضيع من يقوت(143).

 

4- المحافظة على موارد الطبيعة:

 

وهذا يكون بالإيمان أولا، فقد مرّ معنا أن الله سبحانه يعاقب المعاندين له بنكبات بيئية صعبة. وقد قال تعالى مخوفا المسرفين والمبذرين من سوء توزيعهم واستهلاكهم لموارد الطبيعة: ]ولتسألن يومئذ عن النعيم[(144). كما نهى الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن إتلاف المال(145)، ومنه رمي الطعام الزائد أو غير ذلك مما يحتاجه الناس وينتفع به. بل بالغ في حفظ نعم الله فكان الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ يلعق أصابعه بعد الطعام(146). وكان ينهى عن صيد الغرض(147) الذي لا يكون للأكل. وفي هذا أعظم الأمثلة على حفظ نعم الله.

وأحب أن أختم هذا البحث بما قاله د. رمزي زكي: إننا لا ننظر إلى المشكلة السكانية على أنها تعبير عن سباق غير متكافئ بين نمو السكان من ناحية، ونمو الموارد المحدودة من ناحية أخرى، كما يرى المالتوسيون؛ بل هي سباق بين النمو السكاني المرتفع وبين جمود وتخلف التشكيلات الاجتماعية المهيمنة بالبلاد المتخلفة، التي عجزت عن تحقيق التقدم الاقتصادي والاجتماعي لشعوبها، على النحو الذي يوفر الغذاء والكساء والتعليم والخدمات الصحية وفرص العمل الشريف لكل مواطن، قادر على العمل وراغب فيه. والمشكلة السكانية بهذا المعنى هي قضية صراع ضد هذه التشكيلات ومؤسساتها وعلاقاتها الداخلية والخارجية. أما الحقائق الديموجرافية التي تعكسها هذه المشكلة (مؤشرات الخصوبة ومعدلات المواليد والوفيات…) التي لا يمل المالتوسيون الجدد من الإشارة إليها دوما، دون غيرها، فليست إلا (ترمومتر أصم) يشير إلى درجة حرارة المريض، دون أن يشخص لنا حقيقة المرض(148).

2002م

 
 

 

 

 

أضف تعليق

نص اتفاقية التعليق


كود امني
تحديث



المرئيات

الصوتيات

ألبوم الصور

تداعت عليكم الأمم