مقالات

زحْف الإسلام من مكة إلى الشام -2

  • طباعة
.
نشر بتاريخ الأحد, 17 شباط/فبراير 2013 06:49

2- البُعد العسكري

 

      كان لا بد لهذا الزحف من مقدمات لا بد منها، فإن الدعوة هي الأساس في التعامل مع الطرف الثاني، والجهاد آخر العلاج، وعادة لا يكون الجهاد خيارا إسلاميا، ما لم يفرضه الطرف الثاني:

 

- أرسل الرسول r سنة: 6 هـ / 626 م كتابا إلى هرقل عظيم الروم يدعوه فيه إلى الإسلام. فعن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما - قال: حدثني أبو سفيان بن حرب من فيه إِلى فيَّ قال: " انطلقت في المدَّة التي كانت بيني وبين رسول الله r، قال: فبينا أنا بالشام، إِذ جِيء بكتاب من النبي إِلى هِرَقل، قال: وكان دِحْية الكلبي جاء به، فدفعه إِلى عظيم بُصْرى، فدفعه عظيم بُصرى إِلى هِرَقْل وفيه:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 من محمد رسول الله، إِلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد:

   فإني أدعوك بدِعاية الإِسلام، أسْلِمْ تَسْلَم، وأسْلِمْ يُؤْتِك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الإرِيسِيّين و ] يا أهلَ الكتابِ تعَالَوْا إِلى كلمة سواء بيننا وبينكم أَن لا نَعبد إلا الله، وَلا نُشْرِك به شيئا. ولا يتخذَ بعضُنا بعضا أربابا مِن دون الله. فإن تولّوْا فقولوا اشهدوا بأَنا مُسلِمون( ([1])."([2])

-       وكتاب آخر أرسله الرسول r إلى الحارث بن أبي شِمْر الغساني. وكان بدمشق بغوطتها، فكتب إليه كتابا مع شجاع بن وهب مَرجِعَه من الحديبية ونصه:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

   من محمد رسول الله، إلى الحارث بن أبي شِمْر: سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله وصدق، وإني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لاشريك له، يبقى لك ملكك.([3])

  وكانت هذه الكتب بمثابة الإنذار الأول لفتح بلاد الشام.

وأكد رسول الله r حتمية النصر في بلاد الشام بتأكيدات عدة منها:

-استقطاع أراضي وتوزيعها على بعض المسلمين قبل القيام بأي عمل عسكري: ومنه ما رواه ابن مندة بسنده إلى عمرو بن حزم t عنه، أنه قال: أقطع النبي r تميما الداري وكتب:

 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

 هذا كتاب من محمد رسول الله لتميم بن أوس الداري. إن له صهيون: قريتها كلها، سهلها وجبلها وماءها وكرومها وأنباطها وورقها، ولعقبه من بعده. لا يحاقه[يعني لا يخاصمه ] فيها أحد، ولا يدخل عليه بظلم، فمن أراد ظلمهم أو أخذه منهم فإن عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.

 قلت: وهذه الرقعة التي كتب بها النبي موجودة بأيدي التميميين خدام حرم الخليل u إلى الآن. وكلما نازعهم أحد أتوا بها إلى السلطان بالديار المصرية ليقف عليها ويكف عنهم من يظلمهم. وقد أخبرني برؤيتها غير واحد. والأديم التي هي فيه قد خلق لطول الأمد([4]).

وعن سماعة، أن تميما الداري سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقطعه قريات بالشأم: عينون وفلانة، والموضع الذي فيه قبر إبراهيم وإسحاق ويعقوب صلوات الله عليهم، قال: وكان بها ركحه ووطنه، قال: فأعجب ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: إذا صليت فسلني ذلك. ففعل، فأقطعه إياهن بما فيهن، فلما كان زمن عمر، وفتح الله تبارك وتعالى عليه الشأم، أمضى له ذلك قال أبو عبيد: أهل المدينة إذا اشتروا الدار قالوا: بجميع أركاحها، أي نواحيها وحدثنا عبد الله بن صالح، عن الليث بن سعد، أن عمر أمضى ذلك لتميم، قال: ليس لك أن تبيع. قال: فهي في أيدي أهل بيته إلى اليوم([5]). وهذه الرواية منصوص عليه في كتب كثيرة([6]).

 

وسرعان ما تحول هذا التوجه إلى زحف عسكري، حيث جهز رسول الله r في سنتين وعشرة أشهر ثلاثة جيوش لفتح بلاد الشام، وتحرير المسجد الأقصى. كان أولها: غزوة مؤتة بقيادة زيد بن حارثة الذي تبناه الرسول r قبل البعثة، وكانت هذه الغزوة في جمادى الأولى سنة: 8هـ/629م. وكان تعداد الجيش الإسلامي نحو 3000 مجاهد. واستشهد في هذه الغزوة الأمراء الثلاثة: زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب وعبد الله بن رواحة. ثم استلم الراية خالد بن الوليد وانسحب بالجيش بحكمة كبيرة نحو المدينة.

-       ثم غزوة: تبوك سنة: 9هـ / 630م، قادها الرسول r بنفسه، مما يدل على شدة اهتمامه ببلاد الشام.

-       ثم بعث أسامة بن زيد إلى أرض فلسطين: في ربيع الأول سنة 11هـ/632م. قبل شهر واحد من وفاته r وأمره الرسول r أن يوطئ الخيل تخوم البلقاء والداروم في أرض فلسطين([7]). حيث قُتِل أبوه زيد بن حارثة. إلا أن الرسول قضى نحبه قبل أن ينطلق الجيش فأنفذه أبو بكر t في مستهل خلافته، فسار أسامة لوجهه الذي أمر رسول الله r فأصاب في ذلك العدو مصيبة عظيمة وغنم هو وأصحابه، وكان أسامة على فرس أبيه، وقَتل قاتل أبيه وردهم الله سالمين إلى المدينة.

-       ثم تُوّجت هذه الجهود بالفتوح الإسلامية بعد وفاة الرسول r في عهد الخليفة الأول: أبي بكر الصديق t، بعد حروب الردّة فوجه إلى الشام جيشا عقد فيه اللواء لخالد بن سعيد بن العاص. ولما اشتدت المواجهات في بلاد الشام عزز المعركة هناك فجهز أربعة جيوش:

 على أولها: عمرو بن العاص، ووجّهه إلى فلسطين.

 وعلى ثانيها: شرحبيل بن حسنة، وكان قدم عليه من العراق، ووجهه إلى الأردن.

وعلى الثالث: يزيد بن أبي سفيان، ووجّهه إلى البلقاء ـ بلد بالشام ـ وأتبعه بأخيه معاوية.

 وعلى الرابع: أمين هذه الأمة أبو عبيدة عامر بن الجراح، ووجهه إلى حمص.

   والتقى المسلمون بالروم في وقعة اليرموك ( واد في الجنوب الغربي من الشام ) وتتابعت المعارك مع الروم بعد خلافة أبي بكر في خلافة عمر t حيث فتحت بلاد الشام بما فيها فلسطين، وبيت المقدس عام: 15هـ / 636م([8]) وصارت عربية إسلامية، وقد أخذها المسلمون من النصارى، ولم يكن فيها يهودي واحد([9]).

 

الشام.. نهاية التاريخ!

 

تشرُف بلاد الشام باختيار الإسلام لها لتكون نهاية التاريخ فيها، بعد معارك طاحنة كبيرة تطوي سجل تاريخ هذا الكوكب باتفاق الأديان السماوية الثلاثة، إنها تلك المعارك الطاحنة التي تكون قرب الساعة، والتي تحتاج إلى صفوة الجنود المدافعين عن هذا الدين، يقول أبو الدرداء t محدثا عن رسول الله r، في فضل مدينة دمشق في الوقوف في وجه الكفار المهاجمين في ذلك الوقت. قال: " إن فُسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة إلى جانب مدينة يقال لها: دمشق، من خير مدائن الشام "([10]).

·       ولذلك ورد أنها تستعصي على الروم مع ما يبذلونه من قوة للسيطرة عليها: فعن عبد الرحمن بن سلمان قال: " سيأتي ملك من ملوك العجم يظهر على المدائن كلها إلا دمشق "([11]).

·       كما أن مدينة دمشق تكون المركز الذي يهتدي وسط فتن آخر الزمان، وتتولى بقيادة عيسى u الوقوف في وجه المسيح الدجال. فعن النواس بن سمعان t، في حديث طويل عن الدجال في آخر الزمان، حيث يَفتن كثيرا من الناس ثم ينزل المسيح عيسى بن مريم u فيخلص الناس منه. يقول سمعان t محدثا عن رسول الله r: " فبينما هو (الدجال ) كذلك إِذ بعث الله المسيح بن مريم u، فينزل عند المنارة البيضاء، شرقي دمشق، بين مَهْرُودَتين، واضعا كَفَّيه على أجنحة مَلَكين "([12]).

إذًا لا ينزل عيسى u في فلسطين، أو في دولة بني إسرائيل هناك كما يظن النصارى ؛ وإنما هذا الشرف لمدينة دمشق، ومنها ينطلق عيسى u لمجاهدة المعاندين للإسلام.

كما أن لجبل الطور شأن عظيم إبان القيامة الكبرى، وبعد أن يَقتل المسيحُ عيسى ابن مريم u الدجالَ، ويأذن الله ليأجوج ومأجوج بالخروج، ولا طاقة لأحد بمواجهتم. عندئذ يأمر الله نبيه عيسى u باللجوء مع المؤمنين إلى جبل الطور ؛ إذ جعله الله ملاذا لهم من يأجوج ومأجوج. و من على هذا الجبل ترتفع دعوات نبي الله عيسى u ومن معه من المؤمنين. ففي الحديث الشريف:

·       عن النواس بن سمعان t، عن رسول الله r قال: "... فبينما هو كذلك ] بعد قتل الدجال [ إِذ أوحى الله عز وجل إِلى عيسى بن مريم: إني قد أخرجت عبادا لي، لا يَدانِ لأحد بقتالهم، فَحرِّزْ عبادي إِلى الطور، ويبعث الله يأجوج ومأجوج، وهم من كل حَدَب يَنْسِلون، فيمرُّ أوائلهم على بحيرة طَبَرِيَّةَ، فيشربون ما فيها، ويمرُّ آخرهم، فيقولون: لقد كان بهذه مرَّة ماء، ويُحْصَرُ نبيُّ الله عيسى u، وأصحابه،... فيَرغبُ نبي الله عيسى u وأصحابه، فيُرسل الله عليهم النَّغَفَ في رقابهم، فيصبحون فَرْسَى، كموت نَفْس واحدة، ثم يهبط نبيُّ الله عيسى u وأصحابه إِلى الأرض "([13])

كما أن حشر الناس يوم الحشر على هذا الكوكب إنما يكون في الشام كما صحت بذلك الأحاديث الكثيرة منها:

1 - حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنكم محشورون رجالا وركبانا، وتجرون على وجوهكم ها هنا، وأومأ بيده إلى الشام »([14]).

2 - حديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « الشام أرض المحشر والمنشر »([15]) إلى غير ذلك من الأحاديث.

قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله -: "وفي تفسير ابن عيينة عن ابن عباس رضي الله عنهما: « من شك أن المحشر ههنا، يعني الشام، فليقرأ أول سورة الحشر، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يومئذ اخرجوا "، قالوا: إلى أين ؟ قال: " إلى أرض المحشر »([16]).

والسبب في كون الشام هي أرض المحشر أن الأمن والإيمان حين تقع الفتن في آخر الزمان يكون بالشام، وقد دعا النبي صلى الله عليه وسلم للشام بالبركة فقال: « اللهم بارك لنا في شامنا، اللهم بارك لنا في يمننا »([17]).

وعند قوله تعالى: )هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ( [الحشر: 2]

قال ابن كثير: كان منهم طائفة ذهبوا إلى أذرعات من أعالي الشام، وهي أرض المحشر والمنشر([18]).